تشارلي كيرك... رحل المؤثّر ولم يسقط الخطاب

11 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 10:57 (توقيت القدس)
تشارلي كيرك خلال تجمع انتخابي لترامب في أريزونا، أغسطس 2024 (ريبيكا نوبل/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اغتيال تشارلي كيرك كشف عن طبيعة السياسة الأمريكية الحديثة، حيث لعب دورًا محوريًا في تشكيل لغة اليمين المحافظ بين الشباب وكان حليفًا للرئيس السابق دونالد ترامب.
- كيرك استخدم منصات التواصل الاجتماعي والبودكاست لنشر رسائله السياسية، مما ساهم في بناء شبكة تأثير قوية، وقدم لترامب منصات بديلة عن الإعلام التقليدي.
- اغتياله أثار نقاشًا حول عنف السياسة الأمريكية و"اقتصاد الغضب"، مما أثر في الحزب الجمهوري وأبرز تحديات الديمقراطيين في الوصول إلى الشباب.

لم يكن اغتيال تشارلي كيرك حادثة معزولة بقدر ما كان لحظة كاشفة عن طبيعة السياسة الأميركية اليوم. الرجل الذي بدأ ناشطاً شاباً على منصّات التواصل، ثم تحوّل إلى مؤثّر واسع النفوذ ومؤسّساً لـTurning Point USA، كان واحداً من أبرز من صاغوا لغة اليمين المحافظ بين جيل الشباب، وواحداً من أقرب الحلفاء إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب

.

حين أصابته رصاصة في عنقه خلال فعالية جامعية في يوتا، بدا المشهد قاسياً ومباشراً: دماء على منصة كتب عليها "عودة البريق الأميركي" American Comeback، ووجوه مذعورة تركض خارج الخيمة بعد دوي إطلاق النار. لكن خلف الصدمة، ظلّت حقيقة أبسط وأكثر عمقاً: شبكة التأثير التي ساهم كيرك في بنائها لا تزال تعمل، وربما ستزداد حضوراً بفعل غيابه.

صنع تشارلي كيرك مسيرته على ملاعب الجامعات واستديوهات البودكاست والبث الحيّ. كان يعرف كيف يختصر الرسالة في جمل قصيرة قابلة للمشاركة، وكيف يحوّل القضايا الجدلية، من مناهج التعليم إلى قضايا الجندر والدين، إلى عناوين تعبئة متكررة. جذب المانحين عبر أرقام المتابعة والتفاعل على حساباته على مواقع التواصل، وفتح أمام نفسه وأقرانه أبواباً إلى الدوائر الأقرب من ترامب، من مارالاغو (مقر ترامب في فلوريدا) إلى غرف النقاش حول الترشيحات والولاءات داخل الحزب. لم يكن مجرد ناقل لأفكار قائمة، بل صانع قاموس سياسي وثقافي يُسهّل على الشباب تبنّي الترامبية كلغة يومية أكثر منها برنامجاً حزبياً.

قوة هذه الظاهرة أنها لم تتجسّد في شخص واحد. حول تشارلي كيرك تشكّل مشهد كامل من المؤثرين اليمينيين: بودكاستات كوميدية، وحوارات طويلة على يوتيوب وسبوتيفاي وآبل ميوزيك، ومقاطع قصيرة على تيك توك وإنستغرام، وأسماء تجمع بين الترفيه والسياسة، وتقدّم لترامب منصّات بديلة عن المقابلات الصحافية التقليدية. هناك، يجلس المرشّح مطوّلاً، يروي قصصاً شخصية، يعلّق على الرياضة والموسيقى، ثم ينتقل بسلاسة إلى الحديث عن الهجرة والمحكمة العليا والحدود.

في لحظات الحسم الانتخابية ظهر وزن هذا المشهد بوضوح. شكرت حملة ترامب علناً أسماءً من المؤثرين على دعم المرشح الجمهوري وقتها، وتحوّلت ليالي النتائج إلى مهرجانات رقمية من المقاطع القصيرة التي تحتفل وتعيد تدوير اللحظة. لم تكن الفكرة مجرد تسويق لمرشّح؛ بل نقل السياسة إلى حيث يعيش الناس فعلياً: الهواتف، سماعات الأذن، السيارات، وقوائم التشغيل اليومية. بهذا المعنى، حقّق المؤثرون ما عجزت عنه قنوات حزبية طويلة العمر: جعلوا خطاب ترامب امتداداً لثقافة يومية، لا حدثاً انتخابياً عابراً.

في الجهة المقابلة، واجه الديمقراطيون صعوبة في اللحاق بإيقاع هذا العالم. بدا محتواهم أكثر صقلاً وأقل عفوية، وتمسّك كثيرون منهم بمقاربة ترى في المؤثر منفذاً إعلامياً لا شريكاً. والنتيجة كانت فجوةً في الوصول إلى فئات شابة، خصوصاً بين الرجال، حيث حقق محتوى اليمين نسب انتشار وتفاعل أعلى. الفكرة الأساسية هنا ليست أن الجمهوريين اخترعوا جمهوراً جديداً، بل أنهم خفّضوا كلفة الوصول إلى جمهور موجود، ومنحوه روايات بسيطة ومباشرة تلامس اهتماماته اليومية وتُشعره بأن السياسة تشبهه، شبع أغرقته الشعبوية، في الحالة الجمهورية، ومع ترامب، والمؤثرين المحيطين به، تحديداً.

اغتيال كيرك أعاد فتح النقاش حول عنف السياسة الأميركية. دان ديمقراطيون وجمهوريون ما حدث، وكتب جو بايدن أنه "لا مكان لهذا العنف"، فيما أعلن ترامب أن تشارلي كيرك "شهيد الحقيقة والحرية" واتهم خطاب "اليسار الراديكالي" بالمساهمة في الجريمة. سيتجادل كثيرون داخل الولايات المتحدة وخارجها حول الخطاب التحريضي ومنابعه، وصناعة بيئات تغذّي الكراهية، وهو عموماً نقاش حاضر منذ عقد تقريباً، لكن ما يصعب تجاهله أنه في خضمّ كل هذه النقاشات ظهرت ونمت وكبرت صناعة جديدة هي "اقتصاد الغضب" على المنصات المختلفة وبرعاية المؤثرين المحافظين اليمينيين: قوالب جاهزة، وقصص تبسيطية، وخصم واضح تُلقى عليه مسؤولية التعقيد. في هذا الاقتصاد، يصبح للمؤثرين اليد الطولى، لأنّهم يملكون المنصّة واللغة والإيقاع والجمهور.

ضمن هذه السرديات، جاء الخطاب الإسلاموفوبي بما هو إحدى أدوات التعبئة الأكثر فاعلية. استخدم كيرك وغيره من المؤثرين المسلمين بوابةً لإثارة الخوف من "فقدان الهوية الأميركية"، مستدعياً أحداث 11 سبتمبر مراراً. في واحدة من تغريداته المثيرة، علّق كيرك على فوز السياسي المسلم زهران ممداني في نيويورك قائلاً: "قبل 24 عاماً قتل المسلمون 2753 شخصاً في هجمات 11 سبتمبر… واليوم مسلم اشتراكي على وشك إدارة نيويورك".

كيرك نفسه صرّح أكثر من مرة بأن "الإسلام غير متوافق مع قيم الحضارة الغربية"، ملمّحاً إلى أن المسلمين "يستوردون قيماً تسعى لتقويض الحضارة الأميركية". هذا النوع من الخطاب لم يقتصر على كيرك وحده، بل تبنّته وجوه يمينية مؤثرة أخرى مثل لورا لومر وأليكس كلارك، اللتين تهاجمان الهجرة والإسلام بشكل مباشر عبر منصّات ضخمة يتابعها ملايين الشباب الأميركي.

تأثير هذه البنية لا ينتهي عند الحشد الرقمي. داخل الحزب الجمهوري نفسه، راكم المؤثرون قدرة على التأثير في الأسماء والقرارات، من الضغط على القيادات إلى الدفاع عن ترشيحات معيّنة، وفتح الأبواب أمام ممولين جدد. وحين تتراكم الأموال على مبادرات تسجيل الناخبين والاستهداف الدقيق والتصويت المبكر، تُصبح المحتويات القصيرة جزءاً من ماكينة ميدانية كاملة. هذه الماكينة لا تحتاج إلى مركز واحد لتعمل. لذلك، رغم الفراغ الرمزي الذي يتركه كيرك، ستملأ الشبكة الهوّة بسرعة عبر وجوه جديدة، وقادة فصول محليين، وبودكاستات صاعدة تعرف الجمهور وتخاطبه براحته وبساطته.

هنا يكمن جوهر الدرس. السياسة اليوم تُقاس بما ينتشر ويُعاد تدويره ويُحفظ كجملة قصيرة، لا بما يُلقى في قاعة مؤتمرات. لا يعني ذلك أن البرامج التفصيلية فقدت أهميتها تماماً، لكنه يعني أنّ الطريق إلى عقول كثيرين يمرّ عبر عواطفهم وعادات استهلاكهم للمحتوى. حين يصبح "الميم" أقوى من "البيان"، وحين يستطيع مقطع من ثلاثين ثانية أن يثبت فكرة أكثر مما تفعل مقالة مطوّلة، تتبدّل قواعد اللعبة. والمؤثرون اليمينيون فهموا هذا التحوّل باكراً واستثمروه بلا تردّد، فكانوا جسر ترامب إلى البيت الأبيض مرة ثانية، وربما ضمانته للاستمرار في تشكيل المشهد.

أسئلة عدة تبرز في لحظة الاغتيال هذه، أبرزها ما إذا كانت الديمقراطية الأميركية قادرة أن تستعيد مساحة وسط هادئة تقلل من هيمنة "اقتصاد الغضب"، أم أنّ المسار ماضٍ نحو سياسة تُدار بمنطق الترند؟ ما نعرفه الآن أنّ الشبكات التي صنعها كيرك وأمثاله لن تتوقف. ستستثمر قصته لتقوية سردية الاضطهاد وضرورة "العودة" بقوة رغم الدماء والجراح، وستواصل ربط الترفيه بالسياسة والدين بالثقافة الشعبية. وبينما تبحث الأحزاب عن إيقاع مناسب لهذا العصر، سيحافظ المؤثر ــ يميناً ويساراً وإن بدرجات متفاوتة ــ على موقعه كوسيط سلطة أساسي، قادر على تحويل الإعجاب إلى اقتراع والمزاج إلى سياسة، بصوت واضح وسهل ومباشر، يشبه تماماً الطريقة التي أراد تشارلي كيرك أن تُخاطَب بها أميركا.

المساهمون