تشارلي تشابلن: المتشرّد يتخلّى عن العصا والقبعة

تشارلي تشابلن: المتشرّد يتخلّى عن العصا والقبعة

18 مارس 2022
من فيلم "أزمنة حديثة" (Getty)
+ الخط -

متشرد، بلا جنسية، وما من انتماء له. قصير القامة، يعتمر قبعة تقليدية ويحمل عصا، له شارب صغير مبتور، بنطاله فضفاض ومظهره رث، رشيق ومتناسق الحركات ضمن إطار عريض؛ إذ لا حاجة للقطات قريبة، فلإظهار قدرته الإيمائية هو بحاجة لأن يَظهر كاملاً على الشاشة، في زمنٍ كانت السينما صامتة فيه. أمّا الممثلون المساعدون، فلم يتعدوا كونهم أجزاء من جسده. كلُّ ما سبق هو مجرّد وسائل ترويها لنا المغنية والممثلة البريطانية، بيرل ماكي Pearl Mackie مُعلقة على فيلم The Real Charlie Chaplin الوثائقي، الذي أثبتَ أنه لا داعي لظهور تشارلي تشابلن على الشاشة حتى نعرفه، إذ تتكفّل التفاصيل باستحضاره إلى وعينا. كما يكفي أن يستخدم "المتشرد" أدواته في أفلامه الأولى المصقولة كالألماس، مع قصة ذات طابع إنساني تلامس الطبقات الفقيرة.
المخرجان (بيتر مديلتون وجايمس سبيني) اللذان مزجا بشكل مبتكر التسجيلات الصوتية المكتشفة حديثاً، والمقابلات الصحافية المسجلة، ومعلومات أرشيفه الشخصي ومذكراته ضمن بناء درامي لا تستطيع الفكاك منه، بحثاً بشكل محايد عن مكونات الأسطورة ولم ينجحا بتفصيلها. ويبدو أنهما توقعا هذا، فالشخصية التي تحجبها طبقات من الأداء والأفكار والأحداث، أصبحت عصية على الفهم بمرور الزمن. بهذا، حاول مونتاج اللقطات أن يسلط الضوء على مراحل حياة تشابلن الشخصية، ليتفرغ المخرجان في القسم الأخير لمقابلة أولاده، والدخول إلى الكهف المظلم الذي لم يدخله أحد قبلهما. لكن اللافت أنهما لم يكتشفا في نهاية الفيلم من صنع الآخر، تشارلي أم المتشرد؟
يحاول الفيلم، بطريقة درامية، تحليل الأيقونة كموضوع نبوءة، فتظافرت عدة ظواهر خارقة، نراها خلال الفيلم، لتؤكد كلام العرافة التي قابلها المتشرد الإنكليزي حال وصوله إلى أميركا -كما ذكر في مذكراته- فقالت: "ستدخل مجالاً جديداً غير العروض الترفيهية، وستحصد ثروة طائلة". ففي عام 1889، العام الذي ولد فيه تشابلن، حدث خسوف كامل للشمس، وسمح للعامة أن يدخلوا برج إيفل، وشوارع لندن أنيرت بمصابيح كهربائية، والمارغاريتا كصنف بيتزا جديد أضيف لقوائم الطعام، وأدولف هتلر ولد بفارق أربعة أيام بينه وبين صديقنا المتشرد.


ما ميز الفيلم، بالفعل، كانت المقابلات الأرشيفية مع أطفال وزوجة تشارلي الرابعة، أونا أونيل، التي تصغره بـ 35 عاماً، واستمر زواجهما حتى نهاية حياة تشابلن، فصوت أطفاله مع حركات تشارلي المسن كان لها وقعها الخاص في النهاية. حتى بالنسبة لأطفاله الثمانية، كانت الآراء حول تشابلن متناقضة، بين ابن ترك المنزل ليجد نفسه بعيداً عن الأيقونة التي لا تخطئ، وابنة تحاول إجراء حديث خاص مع والدها ولا تستطيع، وزوجة ظلت صامتة إلى النهاية. لم يجادل الفيلم حول تقدير الفن، من دون تجاهل أخطاء الفنان، وترك القرار للمشاهد.
الجديد الذي يقدمه الفيلم أنه أعاد تمثيل العديد من المقابلات، مع الحفاظ على الشريط الصوتي الحقيقي كمقابلة مع صديقة طفولته إيفي ويزدوم (Effie Wisdom) في عام 1983، التي قامت بدورها الممثلة آني روسينفيلد، وتسجيل لماك سينيت، مكتشف موهبة تشارلي، والمقابلة الوحيدة مع الممثل الشهير في منفاه في سويسرا، التي أجرتها مجلة Life magazine، في عام 1966، والمؤتمر الصحافي الأشهر عام 1947، في قاعة نيويورك التي انهالت الصحافة خلاله على تشابلن بالأسئلة حول تعاطفه مع الشيوعية، والرسائل التي حاول إيصالها في فيلم "الديكتاتور العظيم"، علماً أن المؤتمر أقيم ليتحدث فيه الرجل عن فيلمه الجديد الأول، من دون شخصية المتشرد. لكن مَن سيهتم بأعمال تشابلن بعد "الديكتاتور العظيم"، بينما هتلر كان ينهش الكوكب بنازيته؟ وضمن هذه المقاطع، لم يظهر وجه تشابلن سوى بصور فوتوغرافية باللونين الأسود والأبيض، كمحاولة لاستحضار الأشباح لتعيد سرد قصة المتشرد.
للحقيقة، السياق يدل على نفسه في النهاية، فتشابلن صعد في زمن صعود السينما الصامتة، بسبب تطور الصناعة والتقنية وذكاء استخدام قدرته الجسدية، وابتكاره للمواقف التمثيلية الجديدة، التي غيرت شكل الكوميديا حينها. ولا شك أنها عبقرية، فالكوميديا قدمت الابتكار للسينما. واليوم، وبنظرة أكثر دقة على التاريخ، نستطيع إسقاط الضوء على تشابلن ضمن التطور العام للسينما، لنجد أنه لم يسرق شخصية المتشرد من أحد؛ فكان قبله ماكس لاندر ملهمه الرئيس، وقبل لاندر كان ذوو الموجة الكوميدية للمتشردين في السيركات، الملهمون أساساً من المتشردين الحقيقيين الذين أتوا إلى أميركا، ليجدوا عملاً في نهايات القرن التاسع عشر.
البلاد ذات الجمهور الكبير المواظب، ستملك عاجلاً أو آجلاً سينما مهمة على الصعيدين التجاري والفني، وبعد أن ازدادت الاستثمارات في مجال السينما في أميركا، شكلت السينما خط إنتاج رأسمالي، يقدم صناعة تصديرية رابحة. هذه الدعائم الصناعية والثقافية، قدمت فناً لا جدال فيه، ولم تعتمد على الشكل الثقافي بقدر اعتمادها على العوامل الاقتصادية والاجتماعية لنجد خليطاً من الأفلام التي اتفق على اختلاف جودتها الفنية عبر التاريخ، علماً أن الحدث الأهم الذي وقع قبل تشارلي والذي مهد الطريق له وللسينما الأميركية، وهوليود بشكل عام، وما لم يتسع الفيلم لذكره هو إنتاج فيلم "ولادة أمة" من إخراج دي. دابليو. غريفيث (D.W.Griffith)، الذي أعلن عن عنصرية عنيفة تترك وراءها عنصرية الرواية الناجحة، لتدخل بالمجادلات التي بالغت في نجاحه التجاري. صحيح أن "ولادة أمة" انكمش سريعاً في الولايات المتحدة، وكان هذا الانكماش أقل في البلدان الأخرى، فكان يوم عرضه الأول الثاني من فبراير/شباط 1915، وهو اليوم الأول الذي افتتح فيه رسمياً طريق هيمنة هوليود على الكوكب.

أثار زواج تشارلي شابلن المتكرر من القاصرات الكثير من الفضائح والآراء عبر التاريخ. وتحديداً عندما قال لزوجته الثانية (ليتا غراي) في طريق عودتهما من المكسيك: "ارمي بنفسك من القطار تنته المشكلة". لكن لم يكن لها صدى يوازي صدى شخصية المتشرد أو الأرباح التي حققتها أفلامه. وعندما شعرت اللجنة المكارثية بخطر تشارلي تشابلن، قضوا عليه مباشرة بمنع عودته إلى الولايات المتحدة. صحيح أنّ هوليود لم تستبدل تشارلي، وقدمت له الأوسكار بعد سنوات طويلة، لكنّها استمرت بقوة وتخطت عتبات الحربين العالميتين والباردة وهيمنت اقتصادياً على السينما

المساهمون