تحيةُ مخرجات إلى لبنان: ترميم الذاكرة سينمائياً

تحيةُ مخرجات إلى لبنان: ترميم الذاكرة سينمائياً

05 أكتوبر 2020
إليان الراهب: "ليالٍ بلا نوم" (ميدال كلود/Corbis/Getty)
+ الخط -

تمرّ "قافلة بين سينمائيات" في بيروت المنكوبة، بعد جريمة انفجار مرفئها (4 أغسطس/ آب 2020). التجربة السينمائية تتقدّم، دورة تلو أخرى، في تنمية علاقة أعمق بين السينما ومشاهديها. وباء كورونا يحول دون تواصل مباشر، لكنّ الافتراضيّ قادرٌ على تبديد المسافات، بطرحه شكلاً مغايراً للمألوف في المُشاهدة السينمائية.

"تحية إلى لبنان" عنوان الدورة الـ14، المُقامة "أونلاين"(www.womencaravan.online) بين 3 و13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، للمرّة الأولى منذ تأسيس القافلة عام 2008. الهدف، بالنسبة إلى أمل رمسيس (المؤسِّسة والمديرة)، كامنٌ في بلوغ أكبر عددٍ ممكن من المُشاهدين، وفي عرض أفضل الأفلام المنجزة في العامين الماضيين. البانوراما العالمية تضمّ 9 أفلامٍ بحسب الـ"كاتالوغ"، بينما الشريط الدعائيّ يقول بـ10 أفلامٍ، مُنجزةٌ في عامين اثنين (2018 و2019). "تحية إلى لبنان" مرتبطة أيضاً بـ"ترميم الذاكرة". المخرجات المختارة أفلامهنّ منصرفات إلى استعادة فصولٍ من الذاكرة، يغلب عليها الطابع اللبناني بامتداداتٍ مختلفة، فلسطينياً بشكلٍ أساسي. الندوة (7 مساء 10/ 10، بتوقيت القاهرة، بإدارة الزميلة هدى إبراهيم) مهمومةٌ بالذاكرة وتفاصيلها، وبكيفية الاشتغال عليها سينمائياً. المشاركات فيها (ماري جرمانوس سابا ورانيا رافعي ورين متري ورنا عيد وساره فرنسيس) منتميات إلى مراحل راهنة، بينما عرب لطفي الوحيدة بينهنّ التي تشهد مساراً متنوّعاً، في السينما والسياسة والنضال والأيديولوجيا والثقافة، في سنين مديدة.

12 فيلماً لـ11 مخرجة تتنوّع هواجسهنّ بتنوّع انتماءاتهنّ في الاجتماع والثقافة والتفكير والحساسية والعمر. من أعوام سابقة على الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، تبدأ سيرة الأفلام المختارة في قراءة مسار بلدٍ ومصائر ناسه. الفلسطينيّ حاضرٌ، وذاكرة الذات مرتبطة بهجرة إلى مصر. العمل النقابيّ، في لحظة تألّقه اللبناني، يحرّض على قولٍ في تاريخٍ ملتبس، يُراد له بعض وضوحٍ عبر صُور وأرشيف وراهنٍ. للطلاّب حيّز، فنضالهم مترافقٌ وحالة غليانٍ تعيشه بيروت قبل حربها الأهلية، والمفقودون/ المخطوفون في أعوامها المريرة يعثرون في القافلة على صوتٍ لهم أيضاً.

عناوين عدّة، بعضها منبثقٌ من لحظة اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري (14 فبراير/ شباط 2005). هذا لاحقٌ على أفلامٍ تلتقط عنف المدينة في محطّات مختلفة من حربها، غير المنتهية إلى الآن. فالسلم الأهلي مضطرب وغير مُنجز، وذكريات منخرطين في الحرب متمكّنةٌ منهم إلى الآن. الذاتيّ انعكاسٌ لموقع الفرد في بؤر الخراب اليوميّ، والحميميّ جزءٌ من مرويات بلدٍ نازفٍ، وأناسٍ مُتعبين، وأفكار مرتبكة، وتأمّلات معطوبة. التاريخ ثقيل، فأسئلته معلّقة. والراهن قاسٍ، فالجرح غير ملتئم.

 

 

الوثائقيّ اللبنانيّ طاغٍ في خيارات "تحية إلى لبنان". التجريب محاولة للبوح بلغةٍ تمزج بين أنواعٍ بصرية، بحثاً في لغة الصورة وآفاقها المفتوحة على وقائع العيش في خراب الروح والجسد. رائد ورانيا رافعي يصنعان ـ من إضراب طلاب "الجامعة الأميركية في بيروت" لـ37 يوماً في شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان 1974، احتجاجاً على زيادة الأقساط ـ "74، استعادة لنضال" (2012)، لاختبار قدرة الروائيّ على أنْ يكون وثائقياً مفتوحاً على تاريخٍ وحالاتٍ وأقوالٍ. التحوّل في سيرة الوثائقيّ اللبناني واضحٌ في الأفلام. تقنيات صناعة الأفلام خلال الحرب الأهلية وما قبلها تتناقض كلّياً مع تلك الموجودة في صناعتها حالياً. الأنساق والرغبات والأمزجة الإخراجية، المتأتية كلّها من اليوميّ والذاتيّ معاً، تدفع مخرجات لبنانيات وعربيات إلى مقاربات سينمائية تبدأ بـ"التسجيليّ" وتصل إلى وثائقيّ سينمائيّ يمزج في بناه الفنية تمثيلاً يقول، بالأداء، وقائع وحكايات وانفعالات.

"النضال النقابيّ"، في لحظته الذهبيّة، تكشفه ماري جرمانوس سابا في "شعور أكبر من الحبّ" (2017)، باستعادتها حراك عمّال التبغ والشوكولا في سبعينيات القرن الـ20. بينما تذهب رنا عيد، في "بانوبتك" (2017)، إلى بعض خفايا الحرب وجنونها، عبر رسالة سينمائية إلى والدها.

الفلسطينية مي المصري منخرطة، كزوجها السينمائي الراحل جان شمعون، في الهمّين اللبناني والفلسطيني، والهمّ الثاني مرتبط بفلسطين المحتلة وبالمخيمات الفلسطينية في لبنان. تتجوّل المصري منفردةً في "يوميات بيروت" (2006) لالتقاط لحظة غليان شعبيّ يُريد تغييراً ناشئاً من اغتيال الحريري، قبل أنْ يُصاب بأعطابٍ جمّة؛ وتروي، مع شمعون، حكايات أفرادٍ مقاتلين أو مُقيمين في جحيم القتال اللبناني، بامتداده العربيّ والدولي، فتصنع وإياه "جيل حرب ـ بيروت" (1988). الاهتمام بالفلسطينيّ جزءٌ من وعي الراحلة نبيهة لطفي، وأحاسيسها وتفكيرها. "لأنّ الجذور لا تموت" (1977) يوثِّق، بالمفهوم التقليدي للفيلم التسجيلي، يوميات نساء فلسطينيات في لبنان في بدايات الحرب الأهلية. بينما تختار دانا أبو رحمة، في "مملكة النساء" (2010)، مخيم عين الحلوة (جنوب لبنان)، لتصوير حياة نسائه، بعد الاجتياح الإسرائيلي (1982).

الراحلة جوسلين صعب تخوض تجربتها اللبنانية بأفلامٍ عدّة، تصنعها منذ اندلاع تلك الحرب. توثِّق صُوراً وأحوالاً وتفاصيل، في "بيروت لم تعد كما كانت" (1976). كأنّها (صعب) تُدرك، في تجوالها في دهاليز تلك الحرب وبداياتها، أنّ الأفق محمّل بتغيير جذري لمفاهيم وجغرافيا وعمارة وثقافات وأهواءٍ وانفعالات، فبيروت لن تستعيد نفسها، والمقبل من أيامها دليلٌ على خرابها الكبير. مع إليان الراهب، في "ليالٍ بلا نوم" (2012)، يظهر خراب الحرب وأسئلتها المعطّلة، فالبناء الحكائيّ معقودٌ على شخصيتين، إحداهما عائدةٌ إلى أبرز مسؤول عسكري وأمني في "القوات اللبنانية"، أسعد شفتري، الراغب في تكفيرٍ عن مسؤولياته في تلك الحرب، والثانية تتمثّل بأمٍ تبحث عن ابنها، المقاتل الشيوعي، المفقود منذ عام 1982.

الحميميّ ـ الذاتيّ منفلش في "بوابة الفوقا" (1991) لعرب لطفي و"طيور أيلول" (2013) لساره فرنسيس و"الفردوس المفقود" (2017) لرين متري، لكنّه مفتوحٌ على أفقٍ أوسع، في محيطٍ قريبٍ من المخرجات، وفي مساحة أكبر للعيش والجغرافيا والناس.

المساهمون