تأجيل معرض "على أطراف أصابعي": الفن الفلسطيني ليس مرغوباً في نيويورك

15 فبراير 2025
من تظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين في نيويورك، 18 يناير 2025 (مصطفى باسم/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تم تأجيل معرض "على أطراف أصابعي" في نيويورك بسبب وصفه للعدوان الإسرائيلي على غزة بالإبادة الجماعية، مما أثار جدلاً حول تقديم وجهة نظر أحادية للصراع.
- رفضت المؤسسة المستضيفة النص التعريفي للمعرض وطالبت بتعديله ليكون أكثر حيادية، مما أدى إلى تأجيله وأثار استياء الفنانين الذين اعتبروه رقابة على السرد الفلسطيني.
- يعكس تأجيل المعرض تحديات أوسع تتعلق بمن يملك الحق في سرد التاريخ الفلسطيني، حيث يواجه الفلسطينيون قيوداً على سردهم الرمزي لمأساتهم.

كان من المُفترض افتتاح معرض فني عنوانه "على أطراف أصابعي" On My Fingertips في مدينة نيويورك في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، تحديداً داخل مؤسسة apexart غير الربحية، ليُقدم نافذة على الهوية الفلسطينية من خلال أعمال فنانين من أصول فلسطينية. غير أن المعرض تأجل فجأةً إلى أجل غير مسمى، لأنه يصف عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة بالإبادة الجماعية، و"يقدم نظرة أحادية للصراع"، بحسب إدارة المؤسسة.

معرض "على أطراف أصابعي" كان من المُفترض أن يستمر حتى منتصف مارس/آذار المُقبل، وهو ثمرة جهد استمر أكثر من عام، شاركت فيه الفنانات ليلى عوض الله وياسمين عمّاري وجينا حامد، تحت إشراف نوال مغثه التي لها دور القيم الفني. وقد تنوعت المشاريع الفنية المُقدمة بين عروض الأداء والفيديو والتركيبات التفاعلية التي تروي قصصاً عن الأرض والحنين والانتماء. لم يكن الهدف مجرد استحضار للذكريات والموروث الثقافي، بل إبراز كيف يُمكن لهذا التراث أن يُشكل مقاومة ثقافية في وجه محاولات الطمس والاقتلاع.

اختير "على أطراف أصابعي" من بين خمسة عروض فائزة في مسابقة مفتوحة نظمتها apexart. وكان الهدف الأساسي للمعرض، بحسب المقترح المقدّم، إحياء الرموز التراثية الفلسطينية عبر فنون الأداء والتركيب، لتقديم الموروث ليس بوصفه "أثراً ماضوياً"، بل بوصفه جزءاً حيوياً من الهوية المعاصرة. بعد تحضير طويل، قدّم الفريق نصاً تعريفياً ليُدرج في كتيّب المعرض، غير أن هذا النص لم يكن مجرد مقدمة تعريفية، بل كان شهادة حية على واقع لا يُمكن تجاهله. تضمّن النص إشارات واضحة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واصفاً إياه بـ"الإبادة جماعية" استناداً إلى تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش". تضمن النص أيضاً إحصاءً بعدد الشهداء الفلسطينيين، وأشار إلى التدمير المتعمد للمواقع التراثية الفلسطينية، وهو ما اعتبرته قيمة المعرض نوال مغثه أمراً ضرورياً لفهم سياق الأعمال الفنية التي تتحدث عن الهوية والذاكرة، أو كما جاء في النص: "لا يمكننا مناقشة تراثنا وهويتنا من دون الاعتراف بالمحو المستمر لتاريخنا الثقافي وأرضنا وشعبنا".

هذا النص التعريفي لم يعجب المؤسسة المستضيفة المعرضَ، وكان لها رأي آخر. فقد طلب المدير التنفيذي للمؤسسة، ستيفن راند، تعديل النص واستبدال مصطلح "إبادة جماعية" بعبارة "أعمال عسكرية جارية"، وحذف أي إشارات صريحة لتدمير التراث الفلسطيني. برّر راند قراره بأن النص يُخالف المقترح الأصلي، مطالباً بـ"تقديم وجهتي النظر" لضمان الحياد. وعندما رفض الفريق الفني تعديل النص، جاء الردّ الصادم بتأجيل المعرض إلى أجل غير مسمى، من دون تحديد موعد جديد. برّرت المؤسسة القرار بأن التعديلات تُعتبر خروجاً عن نطاق المقترح الأصلي. لكن الفنانات رأين في هذا القرار وجهاً آخر للرقابة، حتى وإن غُلّفت بلغة الحياد المؤسسي.

في تعليق نوال مغثه على قرار المؤسسة بتأجيل المعرض، قالت إن هذا القرار "ليس قراراً فنياً، بل جزء من الرقابة المستمرة التي يواجهها الفلسطينيون عند محاولتهم سرد قصصهم". أما الفنانة ياسمين عمّاري فقد عبرت عن إحباطها قائلة إن "وجودنا بصفتنا فلسطينيين يُعتبر سياسياً في عيون الغرب. مجرد التنفس والحديث بلغتنا هو فعل سياسي بالنسبة لهم".

تبرز هنا مفارقة مؤلمة، إذ كيف يُمكن لفنان أن يعرض أعمالاً تُناقش الهوية الفلسطينية من دون أن يُصنّف على أنه "مُسيّس"؟ ولماذا يُطلب من الفلسطينيين دائماً "تخفيف" روايتهم لتتناسب مع معايير الحياد الغربي؟ إن الفن الفلسطيني ليس مجرد وسيلة للتعبير الجمالي، بل هو فعل مقاومة في حد ذاته. منذ نكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا، لعب الفن (بكل أشكاله: أدباً وموسيقى وتشكيلاً... إلخ)، دوراً مركزياً في الحفاظ على الهوية الفلسطينية. وهذا المعرض، رغم تأجيله، يُمثل امتداداً لهذا الدور. إنه تذكير بأن التراث الفلسطيني ليس مجرد قصص تُروى، بل هو سجل حيّ لمجتمع يحارب من أجل البقاء. وعندما تُمنع هذه القصص من العرض، فإن ذلك ليس مجرد قرار فني، بل موقف سياسي يُعيد إنتاج آليات القمع نفسها التي يسعى المعرض إلى كشفها. أما الحجة التي تسوقها المؤسسة المستضيفة للمعرض، بأنها يجب أن تظل "محايدة"، فتثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الفن نفسه وحياديته أمام الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية. إن الحياد هنا ليس أكثر من غطاء يُخفي خوفاً من مواجهة سردية غير مريحة. لكن الفن الحقيقي لا يسعى إلى تقديم سرديات مُريحة بالطبع، بل يدفعنا إلى إعادة النظر في المسلّمات والأفكار النمطية.

القضية هنا ليست مجرد معرضٍ فني، بل هي قضية من يملك الحق في سرد التاريخ، فالفلسطينيون الذين يُحاصر تراثهم ويُهدم تاريخهم المادي، يُحاصرون أيضاً في سردهم الرمزي لمأساتهم. لم تتوقف المواجهات أيضاً مع الرموز الفلسطينية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، من هذه المواجهات كانت في متحف نوغوتشي للفنون في نيويورك (Noguchi Museum)؛ إذ أعلن موظفو المتحف، في أغسطس/آب الماضي، الإضراب بعد أن أصدرت الإدارة قراراً مفاجئاً يقضي بمنعهم من ارتداء الكوفية الفلسطينية. وقد شمل قرار المنع حتى الأفراد الذين لا يتعاملون مع الزوار. ووقّع أكثر من خمسين موظفاً بياناً يطالبون فيه الإدارة بالعدول عن قرارها واصفين هذا القرار بأنه غير عادل ومعاد للفلسطينيين في الوقت الذي يتعرضون فيه للإبادة الجماعية، وأن مثل هذه القرارات المتسرعة من شأنها أن تُلحق الضرر بسمعة المتحف ومصداقيته.

المساهمون