بيروت منكوبة والمواجهة معطوبة

بيروت منكوبة والمواجهة معطوبة

02 نوفمبر 2020
بيروت المنكوبة: لا مواجهة ولا خلاص (مروان طحطح/Getty)
+ الخط -

لا شيء يتغيّر في بلدٍ منكوبٍ، يملك تاريخاً ناقصاً، وراهناً محترقاً، وأفقاً معتماً، ومستقبلاً مُشوَّهاً. الخراب طاغٍ. الأهوال كثيرة. الحُطام منتشرٌ في أزقّة وعمارة واجتماع ونفوسٍ. الكلام كثير، لكنّ الأفعال نادرة أو مُغيّبة. أناسٌ يصرخون من أجل حقّ، لكنّ لتأثيرهم خفّة غير مُحتَمَلة. مناضلون يتحوّلون إلى أبواق سلطة، أو إلى ما يُشبه السلطة في فسادٍ وتَعَالٍ وتشبيحٍ متنوّع؛ وآخرون يسقطون بأول ضربةٍ تكون فعلاً قاضية، فلا يقومون. ردود الفعل غالبةٌ، فالأفعال معطّلة أو معطوبة أو غامضة بالنسبة إلى من يُفترض بهم تحقيقها، أو من يدّعي ذلك.

كلّ شيء باهت وجاف وخَربٍ ومُغبرّ. الجفاء قاتلٌ كأسبابٍ أخرى للقتل. بيروت غير نابضةٍ، واتّساع الجغرافيا حولها خانعٌ وكئيب. صُور الموت المتنوّع يصعب إحصاؤها، والموت نفسه يتجوّل بتشاوفٍ من تلقاء نفسه، فيقتنص من يريد ساعة يشاء بأدواتٍ كثيرة. الكلام مُكرَّر، وتكراره متعِبٌ. الصُّور الأخرى، في السينما مثلاً، تحاول التقاط راهنٍ مُصاب بنهب سلطة وفسادها، وبمواجع وباء وتفشّيه. صُور تقول أشياء وتروي تفاصيل، وهذا منبثق من يومياتٍ محاصرة بهوس سلطة في إرهاق بلدٍ وناسه، بتجويع وتهجير واستهزاء وقتل، وبانفضاضٍ مخيف لمحطَّمين عن فعلٍ يواجه التحطيم ويكسره.

أفلامٌ قليلة تصنع من الراهن صُوراً، يقول بها بعض ما سيُصبح لاحقاً ذاكرة بلدٍ ومدينة وأناسٍ. كلّ نقاش نقديّ، وإنْ انبثق من مهنيّة واحترافٍ، يبقى ناقصاً، فالغليان قائمٌ في ذواتٍ ومناخٍ وفضاء. كلّ صورة مطلوبة، فالكارثة محتاجة إلى توثيق يتفوّق على تأريخٍ يتوافق مع حاجات ضيّقة ومصالح أضيق. كلّ محاولة بصرية نتاجٌ يُشاهَد ويُناقَش، وإنْ تخطّت المُشاهدةُ النقاشَ، رغم أنّه يُفترض بالنقاش أنْ يترافق والمُشاهدة، فالنقاش تشذيبٌ لمسارٍ، وإنْ في لحظة احتراق المسار.

 

 

النقاش في أمور كثيرة أخرى ضروري أيضاً في راهنٍ يحترق، لكن الاحتراق مانعٌ لعقل ومنطق أنْ يسودا، أو أنْ يتفوّها بكلامٍ أهدأ وأوعى. العالم برمّته يحترق، والأسى أنّ أدوات مواجهة الاحتراق معدومة الفعالية، فالسكين أقدر على إسكاتِ مُغايرٍ، والنَّحْر أقوى من إعمالِ تفكيرٍ، والدم يكتب سيرة جهلةٍ.

أيّ فيلمٍ قادرٍ على تبيان هذا ومواجهته، مقابل أناسٍ يعتبرون الصُّور حراماً؟ أيّ سينما قادرة على كشفٍ وتعرية وفضح، أمام أفرادٍ يُغلقون مدرسةً كي يُنتجوا قتلة، ويحرقون صالة كي يُشيّدوا أكذوبة وأوهاماً، ويستبيحون الراهن كي يُعزّزوا إقامة في ماضٍ؟

بيروت منكوبة، لكنّ العالم منكوبٌ أيضاً. بيروت مستباحة، لكنّ العالم مستباحٌ أيضاً. مطارات الغرب مغلقةٌ إلا بعضها القليل، وشوارع البلد تستعيد سواتر وحواجز وانشقاقات، فالتواصل ملعونٌ، والتباعد الاجتماعي بسبب وباء يُدعَّم بتباعدٍ من نوعٍ آخر، لتعزيز سطوة غباء وانغلاق وتحجّر.

أي فيلمٍ يواجِه؟ أي سينما تبوح؟ أي قولٍ يُفكِّك؟ أي تفكيرٍ يناهِض؟

لا شيء من هذا يحدث في بلدٍ منكوبٍ، وفي بلاد أخرى غيره أيضاً.

المساهمون