بوب ديلان "الإلكتروني"... 13 ألف شخص غاضب

بوب ديلان "الإلكتروني"... 13 ألف شخص غاضب

25 يوليو 2021
كان ديلان في الرابعة والعشرين من عمره آنذاك (Getty)
+ الخط -

في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 1965، قدّم بوب ديلان (1941) أداءً موسيقياً في مهرجان نيوبورت الشعبي (Newport Folk Festival)، حصد من خلاله كثيراً من صيحات الاستهجان والاستنكار، لكنّه شق طريقه ليغدو واحداً من أهم اللحظات الموسيقية في التاريخ المعاصر.

فما سرّ هذا الأداء؟ ولم ما زلنا نذكره حتى اليوم؟ آنذاك، كان بوب ديلان واحداً من أهم أعلام الموسيقى الشعبية الأميركية، رغم أنّه لم يتجاوز الرابعة والعشرين. كما كان من أشد المدافعين عن إعادة إحيائها عبر موسيقاه في أوائل الستينيات من القرن العشرين، خصوصاً مع ألبومي The Freewheelin' Bob Dylan  وThe Times They Are a-Changin'، اللذين حققا له سمعة عالمية بوصفه "المتحدث الرسمي" باسم جيل كان على وشك الاندثار.

ولم يكن ديلان ليحقق هذا الاعتراف الواسع، لولا مهرجان نيوبورت الذي أقيم لأول مرة، عام 1959، واستقطب قرابة 13.000 شخص، وأصبح في ما بعد حدثاً سنوياً لأكثر من عشر سنوات، هدفه الاحتفاء بتنوع الموسيقى الشعبية الأميركية folk music، عبر مشاركة العديد من الموسيقيين، أمثال جوان بايز، وكينغستون تريو، وبيت سيغر. احتضن المهرجان الشعبي ديلان عام 1963، ومنحه فرصة ثانية للظهور مجدداً عام 1964، ومرة أخرى عام 1965، وذلك عندما قرر ديلان قلب الطاولة والخروج عن "المساحة الآمنة" التي وفرها المهرجان له ولكلّ موسيقيي الفولك حينها.

ما الذي حدث؟ وصل بوب ديلان كابل غيتاره بالقابس الكهربائي، وهذا كلّ ما تطلّبه الأمر! رفقة مجموعة بلوز إلكترونية، مؤلفة من بيري غولدبيرغ على البيانو، وآل كوبر على الأورغ، وغيرهم من أعضاء فرقة "باترفيلد بلوز" وبدعم من مضخمات الصوت الكبيرة، تحدى ديلان المقولة السائدة عن تفاهة الروك آند رول آنذاك، وافتتح عرضه بأغنية "مزرعة ماغي" من ألبوم  Highway 61 وسط ذهول هائل. ثم تلتها أغنية Like a Rolling Stone، التي رفعت صيحات الاستهجان عالياً.

غادر البعض الحفل، وبقي آخرون فقط لكي يسخروا من ديلان ومن تحوله المفاجئ إلى عالم الموسيقى الإلكترونية. ما إن انتهت الأغنية الثالثة، حتى بدأ الصراخ والاستنكار: "هذه ليست موسيقى". وصرخ آخرون: "اعزف موسيقى الفولك أو غادر!". كلّ هذا لم يمنع ديلان من إكمال وصلته التي امتدت إلى خمس عشرة دقيقة، بثلاث أغانٍ، يقال إنّه غيّر عبرها مجرى تاريخ موسيقى الروك والفولك في الولايات المتحدة... إلى الأبد.

لم يكن هذا التحول إلى عالم الموسيقى الإلكترونية مفاجئاً تماماً، إذ كان ديلان قد أصدر الألبوم نصف الإلكتروني الشهير Bringing It All Back Home، قبيل المهرجان بأشهر، وشرع لتوه في إعادة تسجيل أغاني Highway 61 مع موسيقيي روك آند رول وآلات إلكترونية. كما كانت أغنيته الإلكترونية، Like a Rolling Stone، قد تصدرت معظم لوائح الموسيقى في البلاد.

يصف العديد من مؤرخي السيرة الذاتية لبوب ديلان، أنّ ما حدث من استنكار على الخشبة، لم يكن مختلفاً تماماً عمّا كان يحدث خلفها؛ إذ تشير روايات نقلها شهود عن الحادثة، أنّ أعضاء مجلس إدارة المهرجان، خصوصاً بيت سيغر وآلان لوماكس، أرادا قطع الكهرباء لإنهاء وصلة ديلان، لكنّ مدير أعماله، ألبرت غروسمان نجح، في إيقافهم.

يشكل الفاصل التاريخي الكبير، والنجاح الساحق الذي حققه ديلان لاحقاً في مسيرته الفنية، عائقين أمام التحقق من صحة الروايات الكثيرة التي تصف تلك الحادثة الأسطورية، فعازف الأورغ آل كوبر، صرح مثلاً بأنّ الجمهور لم يكن مستاءً من النوع الموسيقي المقدم عبر فقراتهم، بل كان مزعوجاً من ضعف جودة الصوت، وقصر مدة الاستعراض (15 دقيقة فقط)، بينما استمرت عروض المغنين الآخرين لمدة 45 دقيقة، أو ساعة: "كانوا يشعرون بأنّهم تعرضوا للسرقة. لم يهتموا بكوننا إلكترونيين. لقد أرادوا المزيد وحسب".

صحيح أنّه ليس بوسعنا التحقق من الدقة في ما يتعلق بحادثة ديلان ذاتها، لكنّنا نعلم تمام العلم أنّ العداء بين رواد موسيقى الفولك، وموسيقى الروك آند رول، كان في أشده حينها؛ فالاستهجان العارم الذي أصاب جمهور ديلان في الرود آيلاند، يعود سببه إلى الصلات الوثيقة التي جمعت بين حركة الحقوق المدنية وموسيقى الفولك الأميركية في تلك المرحلة، إذ سخّر رواد الموسيقى الشعبية أنفسهم وكلمات أغانيهم وألحانهم، لدعم الحركة السياسية والمدنية الجارية في الولايات المتحدة.

وبسبب هذا "الالتزام السياسي" لم يكنّ الأصوليون الشعبيون أيّ احترام لموسيقى الروك آند رول، مختزلين إياها إلى مجرد ضجيج تجاري مفرغ من أيّ معنى، معتقدين أنّ الموسيقى الحقة هي موسيقى الأكوسيتك (الصوتية) فقط. وأنّ كلّ ما عداها لا يتجاوز كونه هرطقة سمعية، أو بدعة على وشك الزوال بمجرد انتهاء صلاحيتها.

غضب جمهور ديلان منه؛ لأنّه عبر تبنيه لتقنيات الموسيقى الإلكترونية، فإنّه "يخون" ويتمرد على نهجه السياسي والموسيقي اللذين جلبا إليه محبة الناس واحترامهم في الأصل، فلم يكن ديلان مشهوراً بصوته الجميل، ولا بأدائه الموسيقي الخارق، بل بقدرته على صياغة موضوعات أغانيه، بشكل يحاكي مشاكل الناس الحقيقية وقضاياهم، خصوصاً في تلك الفترة المشتعلة بالتظاهرات المعادية لسياسة الحكومة الأميركية، وبحركات التحرر العرقية والجندرية. الأمر الذي لم تقف موسيقى الروك آند رول في صف الحياد عنه، بل لعبت فيه دوراً أساسياً على مرّ العقود الماضية.

تذكّرنا تجربة ديلان أنّ الفنون، قبل كلّ شيء، هي وسط للتجريب والابتكار، وأنّ الوصفات الجاهزة سرعان ما تصبح بالية وغير قابلة للاستعمال، وأنّ الوقوف في وجه 13.000 شخص، بين كلّ حين وآخر، ليست فكرة سيئة دائماً.

المساهمون