بغدادي بعينَيْ فيروز سرحال: جولة في مدينة وسينما وأفراد

10 فبراير 2025
مارون بغدادي: أيكون عصيّاً على كلّ اختزال سينمائي؟ (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "وعاد مارون إلى بيروت" للمخرجة فيروز سرحال يستكشف علاقة المخرج اللبناني مارون بغدادي المعقدة مع بيروت، مركّزًا على مشاعره المتناقضة تجاه المدينة.
- الوثائقي يُهدي إلى مارون وبيروت والسينما، ويستعرض حياة بغدادي من خلال جولة في بيروت، مع التركيز على الذكريات الشخصية والعاطفية، مع قلة في التفاصيل حول أسلوبه السينمائي.
- يتضمن الفيلم لقطات من أعمال بغدادي وصورًا وتسجيلات، بالإضافة إلى نقاش حول تأثيره على الأجيال اللاحقة، مما يعكس حضوره المستمر في السينما اللبنانية.

مقاربةُ المخرج اللبناني مارون بغدادي (1950 ـ 1993)، سينمائياً، صعبةٌ. سيرته، رغم أعوامها القليلة، مليئةٌ بتفاصيل ومواقف وتقلّبات وانفتاح ورغبات، وبحثٍ دائم عن السينما، هاجسه الأول والدائم. أفلامه، الوثائقية والروائية، محمّلة بمعطيات وحالات، تفتح على صانعها أبواب جحيم، أيديولوجي وعقائدي، وتدفع في الوقت نفسه إلى تنقيبٍ في ثنائية السينما والموقف، الأخلاقي أولاً، فيها.

ما تفعله فيروز سرحال، في "وعاد مارون إلى بيروت" (2024، العنوان مستلّ من مقالة لجوزف بو نصّار، منشورة في "النهار" اللبنانية، 17 ديسمبر/كانون الأول 1993)، محاولة بصرية لاكتشاف بغدادي وسينماه، ولاكتشاف بيروت التي له معها علاقة غير ثابتة ومحسومة، تتأرجح بين مشاعر متناقضة، من دون أنْ تُبعده كلّياً عنها: "هذا الفيلم فرصة لي كي أدخل عالم مارون بغدادي"، تقول في افتتاح وثائقيّها الأخير هذا، المعروض أولاً في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي". تُضيف: "أتمنّى أنْ أركِّب صورة وصوتاً يُشبهانه، وأقدر أنْ أشعر بطاقته، وأنْ يمسّني" (الكلام كلّه بصوتها، وبالمحكية اللبنانية). تقود سيارة MG حمراء، كالتي يملك مثلها بغدادي في زمنٍ ماضٍ.

تُهدي سرحال الوثائقيَّ "إلى مارون، إلى بيروت، إلى السينما". هذا يُحدِّد مساراً يجمع البصريّ بالحياتي، ويقتفي أثر شابٍّ وسيمٍ يُتقن الإغواء، بمعانيه كلّها، ويحضر في مشهدٍ لبناني، يبدأ عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وينتهي في منور بناية تسكن فيها والدته (في البناية نفسها يولد مارون ويعيش فترات من عمره قبل "هجرته" الأولى إلى "بيروت الغربية"، وهجرته الثانية إلى باريس). تختار حكاية يرويها الروائي حسن داود الذي سيكون آخر كاتبٍ يعمل بغدادي معه في كتابة سيناريو "زوايا"، غير المكتمل (يصدر في كتاب عن "دار الفارابي" في بيروت عام 2013، بعنوان فرعي "سيناريو لم يكتمل"، باللغتين العربية والفرنسية): هناك ثلاثة أشخاص يُفترض بهم أنْ يموتوا جميعاً، يتوصّل بغدادي وداود إلى كتابة موتهما، قبل عجزٍ عن إيجاد طريقة موت الثالث. ببديهته السريعة، يقترح بغدادي "قتله" في لحظة صعوده سُلّم مبنى والدته، إذْ يسقط في المنور، من دون أنْ ينتبه إليه أحدٌ. هكذا يتوفّى مارون في ليلةٍ مُعتمة، في بيروت التي يُراد لها (!)، حينها، نهوض من بين الركام بكلّ أنواعه (10 ـ 11 ديسمبر/كانون الأول 1993).

جولةٌ في بيروت (مديرة التصوير راشيل نوجا) تريدها سرحال جولةً في سيرة بغدادي. أصدقاء له يروون حكاياتٍ عنه ومعه، وعن بيروت ومعها: حسن داود، حسن نعماني، فواز طرابلسي، فؤاد نعيم، ثريا بغدادي، إيلي أضباشي، جوانا حاجي توما. لكلٍّ منهم/منهنّ حكايات وعيش ومعرفة، محورها مارون. لكنّ الكلام ذكريات عامة وشخصية، يندر فيها قولٌ في كيفية اشتغاله السينمائي. كلامٌ عاطفي، وهذا حسنٌ، لكنّه غير كافٍ رغم أنّ رغبة سرحال، منذ البداية، كامنةٌ في الدخول إلى عالمه، لتركيب صورة وصوت يُشبهانه، فتحسّ بطاقته، ويمسّها (مونتاج: ماريا مالك).

 

 

هذا لا يعني أنّ السينما غائبةٌ، ففي طيات كلامٍ من هنا وهناك شيءٌ أو أكثر منها وعنها. صُور فوتوغرافية، لقطات من أفلام له، تسجيلات بصرية للقاءات معه، تسلّمه جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ44 (9 ـ 20 مايو/أيار 1991) لمهرجان "كانّ"، عن "خارج الحياة" (مناصفة مع "أوروبا" للارس فون ترير)، والأسلوب المستخدم في وصوله إلى القاعة (يتأخّر عن الموعد، ويُقال إنّه قادمٌ في طائرة هليكوبتر، قبل دخوله)، فيقول داود إنّ هذا جزءٌ من شخصيته. في هذا، تعتمد سرحال نمطاً تقليدياً في سرد حكايتها مع الراحل ومع بيروت (إنتاج "الجزيرة الوثائقية"). هناك أقوال لبغدادي تظهر مكتوبة على الشاشة، وصُور فوتوغرافية تكشف شيئاً من حضوره في بلاتوهات التصوير.

إلى ذلك، هناك حلقة نقاش في صالة سينمائية بين عاملين وعاملات شبابٍ في السينما (رنا عيد، رجا زغيب، ميشال كمون، ريمون زكريا، نور دمشقية، ماريان فياض، هادي زكاك، إليان الراهب، افلين حليس، مولودون بين عامي 1969 و2002) ترتكز على علاقاتهم وتفكيرهم ببغدادي، ومشاعرهم إزاءه وإزاء أفلامٍ وأقوال له. هذه محاولة لتبيان مدى حضور مخرج "بيروت يا بيروت" (1975) و"حروب صغيرة" (1982) و"فتاة الهواء" (1992) في أجيالٍ لاحقة. يستعيد هؤلاء تفاصيل كثيرة من وثائقي سرحال (دقائق قليلة تُظهر الجميع في الصالة أثناء مشاهدة لقطات منه)، بحثاً في مضمونٍ يجدون ملامح له في راهنٍ لبناني. يبدون جميعاً كأنّهم/كأنهنّ يتجوّلون، هم/هنّ أيضاً، في عالم مارون بغدادي، سينمائياً وحياتياً وثقافياً وفكرياً، ويرون ما يُشبه انعكاسات لهم/لهنّ فيه، أو انعكاسات له فيهم/فيهنّ.

تسرد فيروز سرحال حكاية سينمائيّ راحل، في مدينة تعيش انهيارات جمّة، في فترات زمنية مختلفة، أقلّه منذ عشية اندلاع الحرب الأهلية، إلى ما بعد التفجير المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). حكاية يغلب عليها الذاتي الانفعالي، رغم أنّ في عالم بغدادي مسائل كثيرة تُروى وتُناقش وتُفكَّك، وإنْ في فيلمٍ وثائقي يتطلّب مدّة زمنية غير طويلة. فمعاصروه يكتفون بعمومياتٍ مشتركة بينهم/بينهنّ وبينه (في الحياة اليومية والسينما والفكر والسياسة والمجتمع)، واللاحقون/اللاحقات عليه يريدون استكشاف أنفسهم وأنماط تفكيرهم ومشاعرهم في اشتغالاته وعالمه وسيرته.

المساهمون