استمع إلى الملخص
- يعكس الفيلم تأثير وفاة الأم على العلاقة بين المخرج ووالده، حيث يظهر الفقد والذنب وتأثيرهما على تصويره وعلاقته بوالده، مع إبراز التماهي بينهما.
- يتناول الفيلم موضوع السفر كنوع من الهروب، ويهدف إلى تحفيز التفكير، مع تقدير تجربة الوالد، مما أراحه عندما لاحظ تفاعل الجمهور مع العلاقة بين الأب والابن.
(*) واضحٌ من الفيلم، لقطات ومشاهد، أنّ الأرشيف غير كافٍ. هل لأنّك لم تصل إلى ما تريد، لأنّ الاطّلاع على أرشيف هذه الفترة محظور؟ ربما لذلك لجأت إلى اشتغالات بصرية.
هناك مشكلة في الأرشيف في مصر عموماً. واجهت ذلك في عملي الوثائقي. مشكلة الأرشيف تتمثّل بإتاحته معرفة لمن تعود حقوق الملكية. حتى عند العثور على أشياء، أحياناً لا نعرف مَنْ يملكها. بالتالي، هناك خوف من استخدامها. هذه مشكلة كبيرة، لأنّ الأرشيفَ رأسمال السينما الوثائقية. ما دامت مشكلة الأرشيف قائمة، ستظلّ السينما الوثائقية تعاني في مصر. فإذا كنا نقول إنّ هناك أفلاماً وثائقية تشارك في مهرجانات دولية، علينا الاهتمام بالأرشيف.
المشكلة عندي مضاعفة، لأنّه لا يوجد أرشيف للسجون. بعض المُشَاهَد من لقطات متأتٍّ من خيالنا جميعاً، إنْ كان يُحكَى لي، أو ما تخيّلته من حكيهم لي، ومن أصحاب أبي، وهذه ذكريات مُشوّشة جداً في ذهن طفل. طريقة خلق الأرشيف لا بُدّ أنْ تكون من عين الطفل، بذاكرته المُشوّشة: أشياء غير واضحة، أو تقطعها فلاشات. أشياء فيها تضارب. لذا، هناك رغبة في استخدام الخام 16 مم، وأحياناً استخدام أشياء محروقة باعتبار أنّنا نتخيل أنّ الآتي من ذاكرة طفل فيه تشوّش، لأنّ والديه وأصدقاء الوالد يحكون له عن أشياء أكبر من قدرته على الاستيعاب.
(*) لفت نظري، في مشهد الحكي عن فترة الانتخابات وترشيح بعض عمّال الحديد والصلب في حلوان (المشهد ناجح فعلياً)، أنّك لم تلجأ إلى اشتغالات بصرية، مكتفياً بالجلوس إلى والدك، تحكي أو تسأل. لماذا؟
لسبب تقني. ففي الوقت كلّه، هناك أشياء تحدث بالداخل. كذلك فإنّ والديّ، لأنّهما ليسا مُخرجَين ولا دراية لهما بالإخراج، كانا يحكيان هذه القصة بشكل مُشتّت جداً، ومليء بتفاصيل يصعب على المُشاهِد استيعابها. الأمر صعب. فعلياً، كنت أُدرك تماماً أنّ هذه اللحظة، درامياً، لحظة الانكسار بالنسبة إلى أبي. كنت أرى أنّ هناك مشاعر وقصة مُكثّفة جداً لا بُدّ أنْ تُسرد في ذلك الموقف، فبدأت أفهم أنّ المدخل الدرامي لحكي هذه الحدوتة موجودٌ عندي أنا، لا عنده. شعرت بقوّة اللحظة عندما جلسنا هو وأنا وحدنا، مَحبوسَين في هذا المكان، بينما يُقلّب في أرشيفه القديم، في بيتٍ لم يدخله منذ زمن. كنت أحاول تكثيف الحدوتة سردياً، ليكون لها الأثر الدرامي.
(*) في المشاهِد السابقة على وفاة الأم، كنت قريباً من والدك في الكادرات التي تجمعكما. بعد الوفاة، أصبح هناك فاصل بينكما. يتمّ التصوير، فنراه في مكان وأنت في مكان آخر، يفصل بينكما جدار. كأن الوفاة أحدثت فاصلاً. أو كأنّك حمّلتَه سبب الوفاة؟
عندما كانت الأم حيّةً، كانت تمتلك روايتها وصوتها وحكايتها. إنّها، كما في الفيلم، لم تكن تحتاج إلى أحد يدافع عنها. الوفاة لحظة مُربكة لي، بعدها أخذت مسافة. تعبت وتوقّفت عن التصوير. كان لا بُدّ أنْ أتعامل مع مشاعر الفَقد كابن توفّيت والدته. مرّ وقت وصار تفكير: أنا كشخصيّة في الفيلم، بماذا كنت أفكر؟ كان يشغلني عبء الإحساس بالذنب، وأصبحت هناك مسافة بينه وبيني. شعوري بالارتياح بعد الوفاة، بعد لحظات المرض الطويلة. معظمنا أحسّ بشعور كهذا: عندما ينزاح الحمل عن كتفيكِ، تشعرين بالراحة، ثم بالذنب. كأنّنا نحن الاثنين أصبح لدينا شعور بالذنب تجاه هذه السيدة. لذا، كلّ منا أخذ مساحته. ثم اقترب واحدنا من الآخر مجدّداً في المشهد الأخير. تقريباً عدنا كأنّنا أصبحنا طبيعِيّين.
(*) فكرة التطابق بينكما، المُعبّرة عن التماهي، أقصد عندما يحكي هو عن مشاعره، تمثّل أنت ذلك بصرياً. كأنّ هذه المشاعر لم تكن فقط عبئاً عليه هو وحده، فأنت أيضاً تحمّلت العبء. متى ولدت فكرة التعبير سينمائياً بهذه الطريقة؟
هناك لحظة في الحكي بيننا. كنت أفهم ذلك نظرياً. صوّرت معه طويلاً قبل بداية تصوير الفيلم، كي يعتاد الكاميرا، ونُزيل الحاجز معها. ولأنّ لوالدي اهتماماً بالشأن العام، اعتاد مخاطبة الجماهير. له أسلوب في الحكي، وتقطيع الجمل والعبارات بأسلوب معيّن. يهتمّ بأسلوب الخطاب، بينما لم أكن أريد ذلك الأسلوب. صوّرت معه مرّات عدّة، إلى أنْ بدأ تدريجياً يقترب مما أريد، حتّى جاءت لحظة الانتقال إلى بيت جديد. هذه فكرة مهمّة ومُعبّرة درامياً، خصوصاً أنّه شخص كثير التنقّل، على عكس شخصية الوالدة، المتشبّثة بكلّ تاريخها ومكانها القديم.
ساعات أمضيناها معاً في نقل أشيائه، أي إنّنا أمضى واحدنا مع الآخر وقتاً أطول من العادي، فبدأت أُدرك حجم التشابه بيننا. كذلك فريق العمل معي لفت نظري إلى ذلك: ماجد نادر مدير التصوير، ومحمد الحديدي مساعد المخرج. هنا، بدأت أفكر في الاستفادة منه درامياً، وتحديداً مشهد النزول إلى حوض المياه في حظيرة المواشي. قلت: "أريد تجريب هذا، واختبار الشعور". أؤكّد هنا قيمة وأهمية الدور الذي مارسه فريق العمل معي، كالمنتجة قسمت السيد، لأنّ الجميع كانوا يختبرون معي كلّ شيء، ويقولون إنّ الفيلم فيلمنا جميعاً. أخبرنا في أي شيء تُفكّر؟ لا تغلق الفيلم في عقلك. دعنا نختبره معك.
(*) في الفيلم حكي عن السفر، كأنّه نوع من الهروب والتخلّي عن النضال. كأنّه لم يأتِ بأي نتيجة. ألم تشعر بالقلق ولو قليلاً بأنّ حكياً كهذا قد يكسر عزيمة أناس آخرين يُشاهدون الفيلم، فتجعلهم يشعرون باليأس من فكرة النضال؟ ألم تفكّر في أنّ هذا قد يُربك مشاهداً لفيلمك؟
الأفلام مصنوعة لتُربك الناس، ولكي لا يشعروا بالراحة والأمان. لا أصنع أفلاماً لأعطي الناس رسالة. يهمّني أنْ يصل إليهم أنّ هناك شيئاً لا يُريحني. خرجت من هذا الفيلم وأنا أقدّر تجربة والدي أكثر. صنعه جعلني أفهم أنّ الإنسان الذي يحكي كلّ هذا، ويحكي عن ضعفه وانكساره، ويظلّ موجوداً في الفيلم وهو متصالح مع نفسه، لا يُمكن أنْ يكون مهزوماً. كذلك فإنّه لا يزال يفعل أشياء، ولا يزال نشطاً، ليس في السياسة، بل عموماً في المجتمع المدني. حضوره وتشبّثه ملهمان جداً لي. المخرج الفلسطيني رائد أنضوني قال لي بعد العرض: "ليس هناك جيل مهزوم لديه قدرة الحكي بهذه القدرة على المكاشفة".
(*) ماذا كان رد فعل والدك بعد مشاهدة الفيلم، لأنّ التصوير مختلفٌ تماماً عن المشاهدة؟
حاولت إقناعه بمشاهدة نسخة في المونتاج، لكنه رفض. جاء مرة وشاهد بعض اللقطات. لكنْ، بعد انتهاء المونتاج كلّه، رفض المشاهدة مع أصدقاء لي كانوا يشاهدونه معي، وظلّ يقول: "أحبّ أنْ أشاهده مع الجمهور". حتى قبل العرض بليلة، قلت له: "أبي. ربما أنت وأنا لا نُدرك حجم ثقل الفيلم علينا نحن الاثنين". طلبت منه أنْ يُشاهده، لكنّه أصرّ على رأيه. قلت له: "أنت لم تعرف ماذا قالت أمي؟ إنّها تتحدّث عن فترات الحمل التي كانت فيها بمفردها، وعن سفرك، وعن أشياء كثيرة". لم يُغيّر رأيه. ليلة العرض، كان متوتراً ومرتبكاً. لكنْ، بعد العرض، زملاؤه وكثيرون آخرون ظلّوا يسألونه ويتحدّثون معه عن علاقاتهم بآبائهم في السجن وبعده، حتّى إنّ هناك شخصيات لم تتعرّض أسرها للسجن كانوا يتحدّثون معه عن العلاقة بينهم وبين آبائهم، وارتباك العلاقة نتيجة السفر فترات.
هذا أيضاً جذب جمهور "إدفا" (مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية ـ المحرّرة): العلاقة بين الابن والأب، لا السجن. هنا، شعرت أنّه بدأ يرتاح، فالموضوع أبعد من مجرّد سجن. من هذه اللحظة، صار يحضر كلّ العروض، ويحضر دائماً، ويتابع كلّ ما يكتب عن الفيلم، ويُنظّم أرشيفاً خاصاً به.
(*) ماذا عن شريط الصوت؟ هناك تسجيلات على شرائط كاسيت.
منذ البداية، كنت أفكّر في التخطيط لشريط الصوت، ومزج الأشياء بعضها ببعض. كلّ الوقت، كنت أشعر أنّ شرائط الكاسيت بصوت والدي، وما فيها من أبيات شعر، كان يرسلها إليّ في سفره، ستكون جزءاً مهماً من الحكاية، ولها مساحة فكّرت بها في التصوير.
(*) هل وضعت لها مُخطّطاً مُحدّداً، أم تركتها للمونتاج؟
كنت أسمعها كلّ الوقت لأخطّط وأعرف كيف سأتحرّك في بعض المشاهِد. بعد الانتهاء من التصوير مع الشخصيات، بدأت أعمل مشهداً واحداً لوالدي يستمع فيه إليها. وبعد أنْ أدخلت "تْراك" الصوت، وبدأت ترتيب المشاهِد، قرّرت أنّي أنا أيضاً سأصوّر نفسي وأنا أستمع إلى الشرائط. كذلك، أغاني الشيخ إمام، وأغانٍ أخرى، تجعلك تشعرين أنّ هناك جزءاً خرباناً.
يرجع الفضل للفنان سيد رجب، لأنّه بعد انتهاء مشهد الحكي الخاص به، روى لي عن السجن، قائلاً إنّ المساجين، عندما يبدأون بالاستماع إلى أغنية وتدبّ بهم الحماسة، كانوا يغنّون معها، وتعلو أصواتهم عليها، رغم أنّ أصواتهم بشعة وكلّها نشاز. عندها، قلت لفريق العمل: "تعالوا نخرّب الأغاني. كأنّ في الشرائط عيوباً، وتعبيراً عن مرور الزمن". أما الموسيقى، فبسيطة ومحدودة، تعتمد على إيقاعات صغيرة لرامي أبادير وعمر العبد. كان يُفترض بنا العمل على شريط الصوت مع رنا عيد، وجزء كبير من حماسة رنا (هي اختارت ذلك) عندما قرأت خطة شريط الصوت. لكنْ، عندما بدأنا العمل، كانت قد التزمت عملاً في مشروع آخر، فأنجزنا شريط الصوت في ألمانيا.
(*) هل رسمت ديكوباج للمشاهد الدرامية؟ ألم تقلق لظهورك المتكرّر والكثير، إذْ قد يأتي بنتيجة عكسية عند المُشاهِد؟
بالنسبة إلى الديكوباج: كان معي مهندسة الديكور سلمى صبري. لم نرسم ديكوباج بالتفصيل. كنا نعرف كيف سنتحرّك، ومن أين إلى أين، وكيف نسلّم من لقطةٍ إلى أخرى.
أمّا وجودي في الفيلم، فكان يسبّب لي أزمة. بدأ يكبر تدريجياً، بدفعٍ من فريق العمل، إلى أنْ قالوا لي: أنت شخصية فيه، وهروبك تحت شخصيتي والديك لا يُقوّيه بل يُضعفه. يُفترض بك التفكير في نفسك الآن كشخصية موازية. بدأت أرسم لنفسي لقطات ظهور مختلفة، وأخطّط وقت الظهور، لأنّه إذا أصبح متكرراً، ضروري أنْ يكون محسوباً، فهذه مغامرة فيها مخاطرة. كنت أفكّر بالجُمل، حتى لا أستطرد في الحكي عن المشاعر. ظللت أشتغل على نفسي.