برغمان بنظرة نقدية عربية: سينماه تُزاوِج بين الفكر والعاطفة

برغمان بنظرة نقدية عربية: سينماه تُزاوِج بين الفكر والعاطفة

29 يونيو 2022
انغمار برغمان: سيرة ذاتية وفكرية في نصّ عربيّ (لي إيربن/Getty)
+ الخط -

 

كتبٌ كثيرة مترجمة إلى العربية صدرت عن إنغمار برغمان (1918 ـ 2007) وله، إنّما لم يصدر، إلى الآن، كتاب مؤلَّف باللغة العربية عن هذا المخرج السويدي المعلّم، و"آن أوان ذلك"، كما يقول الناقد السينمائي والباحث في التاريخ الثقافي والمترجم اللبناني إبراهيم العريس.

تبنّى "مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)" الفكرة. هذه مناسبة لا تفوّت. من جهة أولى، إنّها بداية مُوفّقة لتوجّهٍ جديد للمهرجان، تتمثّل بإصدار كتب ترافق انعقاد دوراته؛ ومن جهة ثانية، الاختيار مُلائم، لأنّ الكتاب عن مخرج من مُبدعي القرن الـ20، في بلدٍ اشتُهر سينمائياً من خلاله. مُخرجٌ له أكثر من 30 عملاً سينمائياً كبيراً، إلى أعمال مسرحية، و"بضعة كتب رائعة المعنى والمبنى". في الدورة الـ 12 (4 ـ 9 مايو/أيار 2022)، صدر "إنغمار برغمان: عالمه، حياته وأعماله، بعينيّ ناقد سينمائي عربي" (112 صفحة، قطع متوسّط)، باللغتين العربية والإنكليزية، وباللغة السويدية قريباً.

رغم أنّ برغمان، الذي قدّم تُحفاً سينمائية فرضت حضورها في تاريخ الفن السابع، أُشبِع كتباً وتحليلاً ونقداً وتقديماً، ربما يكون كتابٌ جديدٌ تكراراً لما قيل سابقاً، خاصة بالنسبة إلى العاملين في الحقل السينمائي. لكنّ تأليفَ كتابٍ باللغة العربية عنه يُعطي صورة أوضح، ويُثير متعة أكبر في القراءة، لا سيما مع أسلوب يتّسم بالسلاسة والبساطة، وبلغة جذّابة ومتينة، ما يُتيح للجيل الجديد خاصة، السينمائي وغير السينمائي، في السويد والدول العربية، أنْ يرى في هذا الإصدار مناسبة لاطّلاع مُكثّف وشامل وموجز على اسمٍ سمعوا به، وعرفوا مكانته، لكنْ دائماً من وجهة نظر سويدية أو غربية. ربما تكون معرفته من خلال نظرة عربية حافزاً جديداً لمُشاهدة إضافية لأفلامه، وفهمها بشكلٍ أفضل.

في مقدّمته، "تمهيد عربي لا بُدّ منّه"، توجَّه إبراهيم العريس إلى القرّاء قائلاً بمحاولته تبسيط الكتاب، ليكون بمتناول الجميع. 3 أقسام، يستهلّها بـ"حياة مبدع وأفكاره"، المتضمِّن محاور عدّة: تعريفٌ بابن القسيس، الذي بات من أشهر وأكبر المؤلّفين السينمائيين في العالم، الذين جعلوا لفنّ السينما مكانة أساسية في فنون القرن الـ20 وأفكاره، كما كتب العريس. سينما برغمان كانت على حدة، شديدة الخصوصية، تزاوج بين الفكر والعاطفة، وتطرح مشكلات الوجود الإنساني والعلاقات البشرية ومعضلات حياة المرأة، ومسائل أخرى كالدين والأخلاق. حقّق برغمان أفلامه ليطرح أسئلة وجودية على نفسه قبل الآخرين، وليتساءل عن جدوى العلاقات البشرية ("الصمت"، 1963)، والعلاقة مع الوجود والموت ("الختم السابع"، 1957، الفريد في عوالمه)، والشيخوخة ("التوت البرّي"، 1957)، والمرض ("همس وصراخ"، 1973)، والطفولة ("فاني وألكسندر"، 1982).

يُعيد المؤلِّفُ الغنى الموضوعيّ لأفلام برغمان، في نحو نصف قرن، إلى سيرته الذاتية، وهي سيرة فكرية أيضاً، وإلى المعرفة والتجارب التي شكّلت جزءاً أساسياً من وجوده، ومنها تكوّن هذا المتن البرغماني. يوضح الكتاب تأثير ستريندبرغ، "أستاذه الأكبر"، وتشيخوف وإبسن على أفلامه ومواضيعها، بحيث أصبح التمازج تاماً بينه وبينهم. ويلحظ أنّ شموليته شكّلت هامشيّته، فكلّ فنّ كبير، بالضرورة، فنّ هامشي، والهامشية تجديد لامتوقّع، دائماً، في المواضيع والأساليب. هذا وحده قادر على تغيير الفنّ، وعلاقة الإنسان بالفنّ، وعلاقته بالكون والوجود.

يستعيد هذا القسم كذلك اكتشاف برغمان، بعد أفلامٍ عدّة، خارج بلده، مع "الختم السابع"، في أجواءٍ مُهيّأة حينها لاكتشافات جديدة وغريبة في السينما، تُخرج الفنّ السابع، "ولو مؤقتاً"، من أطره الهوليوودية. ترافق هذا مع اكتشاف مؤلّفين سينمائيين آخرين، كبونويل وفلّيني وفيسكونتي وكوروساوا وساتياجيت راي، والموجة الفرنسية الجديدة.

 

 

في هذا القسم، عناوين تتناول بإيجاز مسرح برغمان، "الزوجة"، و"السينما العشيقة"، وعلاقته بالنساء، وتعامله مع الاعتزال؛ خاتماً إياه بمقتطفات من حوارات مُترجمة أجريت معه في السبعينيات والثمانينيات الماضية. خلاصة مُمتعة، تعطي فكرة مُعمّقة عن برغمان، لكنْ ينقصها تأريخ كلّ مُقتَطف ومكان نشره، وهذا مؤسف، لا سيما بالنسبة إلى الزمن، لإبداء ما يكون طرأ على فكر برغمان وأسلوبه ونظرته من تطوّر.

في"سينما برغمان" (القسم الثاني الأطول)، يتناول العريس أفلامه الأولى "الصغيرة"، والسابقة على "صيف مع مونيكا" (1952)، الفيلم الذي افتتح الحداثة السينمائية، واللاحقة له. برّر ذلك بأن مفاتيح برغمان وسينماه الرائعة توجد في هذه الأفلام الأساسية للإضاءة على سينماه. فالفنان يكشف في أعماله الثانوية "أسرار فنّه". من أفلامه هذه، 4 اعتبرها الرحم الذي انطلقت منه سينما برغمان إلى العالم: "ليلة المعارض" (1953)، و"درس في الحب" (1954)، و"أحلام النساء" (1955)، و"ابتسامات ليلة صيف" (1955)، الأكبر بين أفلامه الصغيرة. ثم أفرد مساحة واسعة لتحليل 14 فيلماً آخر، من "مونيكا" إلى "ساراباند" (2004)، الذي اعتبر الوصية الأخيرة.

في القسم الثالث، ملاحق من قاموس برغمان، وعلاقته مع مفاهيم، كالأخلاق والالتزام وحسّ الالتقاط والتحرّر والثورة والجنس والعيش والشعور بالذلّ، بالإضافة إلى السياسة والشرّ والكاثوليكية والمرأة والطفولة. مفاهيم هيمنت على أفكاره "هيمنةً تامة، فتأتي على شكل انطباعات وصُور واضحة ومحسوسة". هناك الغريزة، التي قال عنها: "شخصيات أفلامي مثلي تماماً، أيّ أنّها حيوانات تحرّكها الغرائز (...). مادة أفلامي تجارب الحياة التي يكون سندها الذهني والمنطقي واهياً". عرض المؤلف نماذج من تلقّي برغمان في النقد العربي، فاختار 4 مقالات نقدية عربية (آية الأتاسي، طلاّب علم النفس في فلسطين، ريما المسمار، والزميل نديم جرجوره).

بعض صُور الكتاب ليست عالية الدقّة، وافتقدت الشروحات عليها. لكنّ الكتاب مُشوّق، لأنّه عن سينما شمولية عابرة للزمن، و"جوّانيةُ الروح الملتهبة، والعواطف والتداعيات والذكريات"، وأفلامها تحتاج دائماً إلى الاكتشاف.

المساهمون