استمع إلى الملخص
- يعتمد بن جدو على أسلوب إعلامي يمزج بين البلاغة والإيحاءات الغامضة، ويظهر في برنامج يقدمه حمدين صباحي، مستغلاً رمزية الشاعر علي قنديل للتأكيد على استمرار النضال.
- يواجه بن جدو انتقادات حول ملاءمة برنامجه للجمهور، ويواصل التركيز على استعراضات إعلامية شخصية بدلاً من تحقيقات جادة عبر تلفزيون الميادين.
شهور قليلة مضت على اغتيال الاحتلال الإسرائيلي الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، كانت كافية ليعود غسان بن جدو إلى المشهد، فعباءة الراحل التي وفرّت لبن جدو الغطاء ليناضل على طريقته، وللعب على المساحة الأثيرة لديه التي لا تكتفي بالإعلام، بل تسعى إلى تصدّره علّه يكون منصته للقيادة، لم تعد موجودة بقوة الدفع القديمة، الجبّارة إذا شئت، التي تمتّع بها الحزب وبن جدو استتباعاً لنحو عقدين، والحال هذه فلنظهر ونحجز مقعداً ونقول نحن هنا في انتظار عباءة أخرى تجيء وتليق.
كرّس بن جدو نموذجه المفارق للسائد ولمعايير المهنة نفسها، ويقوم على البلاغة الرخوة التي توحي بالقيادة والمعرفة السرية التي عليك أن تنتظر ما تفيض به عليك، والإيحاءات المترفعة التي تُوهم بأن سياق الأمور التي نراها ونعاينها مختلف وعلى غير ما يتراءى لنا، وليس ثمة سواه من يقاربه ويفك مغاليقه.
أضاف إلى ذلك أناقة وتأنثاً غريبين، فالرجل الذي أغرقنا لسنوات في ظهوره بقمصان مزدوجة الياقات، ظهر قبل أيام بجاكيت بلا ياقة أصلاً، شبيه بالثياب الصينية لكن مغلقة الأزرار، ليقدّم مفاجأته النضالية في مرحلة ما بعد نصر الله: "بالإمكان" مع حمدين صباحي.
لكنّ ظهور بن جدو لا يجري كيفما اتفق، بل على خشبة مسرح، فلا بد من جمهور للإعلامي الذي يقف على المنصة، ويوحي لك كلّ مرة بأنه سيقفز بعد قليل إلى منصات الساسة والزعماء والقادة، ففي مؤتمر صحافي يظهر الإعلامي التونسي ليستذكر نصر الله، الأحب على قلبه كما قال، وليؤكد لجمهوره، وهو متخيّل ومفترض ولا يقتصر على الحضور، أنّ كثيرين خيّل لهم أنّ لبنان انتهى برحيل نصر الله، والأمة انتهت، وأنّ النضال سينتهي أيضاً، ولكن هيهات، فنحن هنا لنقول لا للانكسار والهزيمة، وبإمكاننا ذلك.
أما كيف؟ فمن خلال برنامج جديد يقدمه الناصري حمدين صباحي، وإذا كانت ثمة من ميزة في البرنامج فهي التذكير بالشاعر المصري علي قنديل الذي رحل عن 22 عاماً منتصف سبعينيات القرن الماضي، وترك وراءه ديوان شعر وحيداً طُبع بعد رحيله، ومن إحدى قصائده أُخذت "بالإمكان"، أما سوى ذلك فاحتفال بن جدو بنفسه وعودته إلى الأضواء التي حُرم منها خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة ولبنان.
ولأنّ الإعلاميين غالباً ما ينجون بمعدلات أكبر بكثير من المقاتلين، فقد نجا بن جدو وقُتل نصر الله والآلاف غيره، فماذا على الإعلامي الذي لا تكفي وسيلته الإعلامية طموحَه في الحضور والظهور أن يفعل؟ أن يناضل بعد أن تضع الحرب أوزارها، وينتج برنامجاً جديداً يناضل فيه حلفاؤه المفترضون، وهم ناصريون هذه المرة، لإثبات أن "الأمة" لم تنته برحيل نصر الله.
هل ثمة سخرية هنا؟ نعم، فما حاجة المشاهد العربي، وفي حالة قناة الميادين، جمهور حزب الله، بمحاضرة متلفزة لأكثر من خمسين دقيقة كل أسبوع، تدعوه إلى النضال والتمسّك بالثوابت؟ هذا في حالة الجمهور المستهدف، أما من حيث معايير المهنة فهذه ليست من الصحافة التلفزيونية في شيء، بل مجرد استعراض يهدف إلى القول إننا هنا ونتمدّد، فإذا غاب منا رجل فثمة مئات آخرون ينتظرون والمنصات الاستعراضية بيننا.
ألم يكن من الأفضل أن يكتب بن جدو مذكراته؟ نعم، ولكنه لن يفعل، فذلك يقضي على الإيحاء بالغموض الذي يتقصدّه، ثم إنه يموضعه في سياق أكبر يظهر حقيقته إعلامياً وليس صانعاً للخبر، وربما لا تناسبه صيغة كهذه.
وكان المأمول أن يتواضع الرجل، ويعرف أن ما بعد نصر الله ليس كما قبله، وأن البضاعة الناصرية لم تعد مرغوبة منذ عقود، وأن ممثلها الحالي ظاهرة كلامية لم تصمد داخل بلادها نفسها في حقبتي المغدور محمد مرسي ومن بعده الجنرال عبد الفتاح السيسي، وأن بإمكان تلفزيون الميادين الذي يديره بن جدو أبدع مما كان، بتحقيقات صحافية حقيقية عن شهور القصف الإسرائيلي، عن أسرار الضربات المفاجئة التي تكبّدها الحزب والدروس المستفادة، ومنها مجزرة البيجر وسواها كثير، ومنها اغتيال نصر الله نفسه وخليفته وأبرز قادة حزبه، لكنّ أموراً كهذه قد لا توفّر لبن جدو مسرحاً ولا بطولة مدّعاة، فلنصرف النظر عنها ونتعاقد مع حمدين: تلك بضاعتنا وهذا إمكاننا.