الهادي الجويني... المغنّي سيأتي من ذلك الحي

الهادي الجويني... المغنّي سيأتي من ذلك الحي

30 نوفمبر 2021
يلقّبه التونسيون بـ"البابا الهادي" (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

كانت أمسية لا تنسى، عزف فيها نابغة العود اللبناني، فريد غصن، عدداً من ألحانه، مازجا في ما قدمه الأسلوب الإسباني بالموسيقى العربية.

من بين الجمهور في المسرح البلدي في تونس، كان هناك عازف صغير السن، يرقب مفتوناً كل نقلة لأصابع الغصن على عوده، ليقرّر الشاب التونسي أنه لن يعزف بعد ذلك إلا على تلك الآلة.
كان الهادي الجويني (1909 - 1990) قبل هذه السهرة عازف مندولين، قضى بعدها أشهراً في التدريب على العود ليتقنه، وتعلم أيضاً على الآلات النحاسية، مثل: البسطون، وعدد من الآلات الهوائية، متنقلاً بين مجالس غنائية وشعرية انتشرت وقتها في تونس.
ومن حي المركاض المجاور لمنطقة سكنه، حيث كانت تقطن الجالية الإسبانية، تعرف الجويني على موسيقى الفلامنكو، ليقضي لياليه بسهرات فنية في ذلك الحي. هناك، بدأت تتشكّل ذائقته الموسيقية؛ إذ كان متعلقاً بالموسيقى الشرقية، خصوصاً من خلال كبار مؤلفيها، مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، وهناك أيضًا التقى بالفلامنكو.
لم يتأخر منتوج هذا التطواف؛ فأطلق الجويني أول ألحانه وهو في الرابعة والعشرين من عمره (1933)، من خلال دويتو "فرانكو آراب"، مع المغنية شافية رشدي باسم "شيري حبيتك". نجح الثنائي نجاحاً كبيراً، رغم إعراض الكلاسيكيين ومهاجمتهم اللون الموسيقي الجديد.


في ذات الوقت، واظب الملحن والمطرب التونسي على الدرس؛ فانضم إلى المعهد الرشيدي للموسيقى العربية حتى يتعلم مبادئ الترقيم الموسيقي، ثم التحق بالمعهد الفرنسي التونسي، ليشترط عليه المدير تعليم الطلبة المقامات الشرقية والعزف على العود، فأصبح أستاذاً أثناء دراسته.
إتقانه للعزف على آلة العود، رشحه أيضاً للانضمام إلى فرقة "الرقي الوترية"، ومنها إلى فرقة العميد محمد التريكي، وتمددت شهرة الجويني بفعل أمسيات أحياها في قاعات الغناء في المقاهي التونسية. سمة امتاز بها هذا العصر، ودلت على مبلغ اهتمام أهله بالموسيقى.
من الفضة، صنع الهادي المقتنيات الثمينة في مبتدأ حياته، إذ كانت مهنته الأولى. وحينما احترف الموسيقى، فاقت مصوغاته اللحنية ما كان يصنعه من حُلي في صباه ومطلع شبابه. دعا هذا كوكبة من ألمع مطربي عصره للتزاحم على ألحانه؛ فغنت له زهيرة سالم "كسرت القلة"، ولحّن "تحت الياسمينة في الليل" لحسيبة رشدي، وخص السيدة نعمة بأغنية "يا شاغلني وشاغل بالي"، وقدمت عليّة موشحا له اسمه "اعطفي عدل قوامك"، وغنى الهادي من ألحانه: "لو موش الصبر يطفي ناري"، و"تبعني نبنيو دنيا جديدة"...


بشر الجويني برسالة فنية، يدعو فيها إلى تعددية الينابيع الموسيقية لتصب في مدرسة تونسية لا تخشى أبداً الانفتاح على مختلف المدارس، ليروج هذه الرؤية في المعهد التونسي. وربما كان هذا سبباً في عدم استمراره طويلاً في التدريس به، فقد جافى منطقه تصور أساتذة المعهد الكلاسيكيين، إذ اعتبروا دعوة الهادي الفنية خروجاً على ملتهم الموسيقية.

في هذه الفترة، انضم فناننا إلى جماعة تحت السور، وهي مجموعة من المثقفين والأدباء والموسيقيين الصعاليك، كانت تجتمع في مقهى يقع تحت أحد الأسوار، منهم شعراء أمثال زين العابدين السنوسي، ومصطفى خريف، وعبد الرازق كركابة، ومحمد العريبي، محمود بورقيبة، وجلال الدين النقاش... كذلك كل من أبي القاسم الشابي وبيرم التونسي.
هذه القرابة، حرضت تلك الأسماء على إيثار الهادي بقمم أشعارها الغنائية، فأهداه الهادي العبيدي "لاموني اللي غاروا مني"، وخصه علي الدوعاجي بـ"دور العتاب"، ووهبه جلال الدين النقاش "سمراء يا سمراء"، التي أعاد محمد منير غناءها، وكتب له عبد الرازق كركابة "مكتوب يا مكتوب"، وووصله محمد العريبي بـ"هذي غني جديدة"، وأعطاه محمود بورقيبة "اليوم قالت لي زين الزين"...


أثناء ذلك، تنقل الجويني في خفة بين الدور والطقطوقة" والموشح والديالوغ، إلى جانب الأغاني الخفيفة والوطنية، وصاغ الفلامنكو في مقامي الكرد والنهاوند بمهارة الصائغ القديم، ثم وزعه على أغانيه الشرقية.
كان من طبائع الأمور أن يكون الجويني بعد شهرة حصلها من أوائل المشتغلين بالإذاعة التونسية لدى تأسيسها (1937) ليوزع هداياه اللحنية والغنائية على برامجها، ويعمل عازفاً وملحناً في فرقة الإذاعة الموسيقية، ثم يترأس القسم الموسيقي بها.
من خلال منصبه، منح "بابا الهادي"، مثلما يطلق عليه التونسيون، الفرصة لمواهب جديدة، وأشرف على منتوجها، منها الممثلة والمغنية فتحية خيري، والملحن صادق ثريا وعازف الكمان رضا القعلي.
نجاح الهادي الباهر قدمه أيضاً حتى بلغ به عتبة السينما؛ إذ شارك في عدد من أفلامها، منها: "الباب السابع" (1946)، و"المجنون" (1948)، و"كتاب القدر" (1952)، إلى جانب تمثيله في عدد من الأفلام المغربية.
ولم يستثن الهادي المسرح من سيرته المهنية؛ فلحن العديد من المسرحيات، مثل "بين نومين" للفرقة البلدية التي أعاد إحياءها الفنان المصري زكي طليمات، و"مجنون ليلى" لإبراهيم اللقاني، و"عايشة القادرة".بما يزيد عن 1000 أغنية، وأكثر من 56 أوبريتاً غنائياً، و700 لحن، بسط الهادي الجويني نفوذه الموسيقي على حقبة بأكملها، حينما لم يترك لوناً موسيقياً إلا وخطه بنغماته، ولم يتوانَ إبداعه عن تطويع روافد جدّد بها موسيقانا الشرقية، ليشكل فنه هوية الغناء التونسي، وفق رؤية حفزت على الانفتاح، وكان الجويني من أوائل صاغوها بمهارة.

المساهمون