النقد المقدّس

النقد المقدّس

13 أكتوبر 2021
ساهم النقد المتخصص إلى درجة كبيرة في تطور الدراما (Getty)
+ الخط -

يمكن وصف بدايات الدراما التلفزيونية في الستينيات حتى السبعينيات بشهر عسل هذه الصناعة، حين كان النقد شبه غائب عنها والناس لا يزالون مسحورين بذلك الصندوق العجيب، وهناك الكثير من الأعمال التي لو قدمت الآن لكان مصيرها الرفض.

لكن مع انحسار الدهشة، وتطور التقنيات التلفزيونية، وتضاعف حجم الأعمال الدرامية، وزيادة عدد الصحف، أصبح لدينا ما يمكن أن نطلق عليه نقداً. وأصحاب النقد مثل صنّاع الدراما معظمهم- إن لم نقل كلهم- لم يكونوا من المختصين، ولم يرتكز نقدهم على المعايير التقنية، بل كان انطباعياً في غالبيته، يعتمد على تأثر الإنسان بما شاهده، وفي أحيان كثيرة ضرب من المجاملات.

مع الزمن، بدأت تظهر أقلام ناقدة متخصصة، اكتسبت معرفتها عبر الدراسة الأكاديمية أو الخبرة، وهذا لا يزال متبعا حتى وقتنا الحاضر. ساهم هذا النقد إلى درجة كبيرة في تطور الدراما، على الرغم من قلة الخبرة والتخصص، إذ كانت تقف وراءه أقلام صحافية لها أهميتها ولها تقاليدها وأعرافها التي لا تقدم ما لا يحتوي على الحد الأدنى من النوعية، كما كان هناك محررون محترفون لهم أيضاً تقاليدهم وأعرافهم التي تخولهم كتابة العبارة الشهيرة آنذاك "غير صالح للنشر"، على المادة التي تفتقد إلى الحد الأدنى من الشروط الواجب توفرها في المادة الصحافية أياً كان نوعها.

كل هذه الأعراف والتقاليد نسفت مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أفسحت المكان لكل من يرغب في طرح رأيه، حتى ولو لم يكن يحتوي على أي معيار موضوعي وغير مبني على أي خلفية معرفية في مجال الدراما، فأصبح خطأ إخراجي ما في العمل، أو هفوة ما في النص، محوراً قابلاً لكي يبنى عليه حلقة في موقعي "يوتيوب" أو "فيسبوك"، تستمر نصف ساعة، وتدعي أنها تحتوي على رؤية نقدية للعمل الدرامي. وأصبحنا نرى شخصا لا يمتلك أي خبرة أو قاعدة معرفية يقدم، في فترة زمنية لا تتعدى ربع الساعة، رؤية نقدية لعشرة مسلسلات درامية. لنفترض أن هذا الجهبذ شاهد الأعمال هذه كلها، فمتى تسنّى له تحليلها؟ هذا إذا تجاوزنا الحديث عن التحليلات نفسها التي تتسم بالضعف والضحالة، وغالباً ما تلجأ إلى أسلوب الإثارة، لكسب أكبر عدد من المعجبين ولغايات ربحية كما هو معلوم، وآخر همها موضوع النقد.

في السابق، حين كانت تظهر مواد نقدية موضع جدل، كان يتم الرد عليها في الصحيفة نفسها على الأغلب، أو في صحيفة منافسة، وكانت تدور معارك نقدية يتابعها الجميع بشغف، وغالباً ما يقدم فيها المتعاركون عصارة فكرهم وثقافتهم. أما أصحاب الإنترنت، على اختلاف فصائلهم، فجدالهم على الأغلب يكون أقرب إلى تبادل السباب، ويعتمد على الغوغائية التي تفتقد إلى أي معايير مهنية وربما أخلاقية.

ولا حل لهذه المعضلة إلا معرفتنا، فإن قرأنا أو سمعنا مادة نقدية، فعلينا أن نقوم بتشريحها والتعرف إليها، إن كانت فعلاً تنتمي للنقد أم لا. فإن لم تكن كذلك، فلا بد من تجاهلها وعدم إعطائها أي أهمية. هناك مقولة تفيد بأن "الناقد فنان فاشل"، وليست الغاية من هذه المقولة الإساءة للناقد، وإنما للدلالة على أن الناقد يعرف كل شيء عن الموضوع الذي يكتب فيه وليس كائناً طحلبياً يهذر بما لا يعرف.

المساهمون