"الموصل" على نتفليكس: حِرفية سينمائية تروي مقتطفات من رحلة الثأر

"الموصل" على نتفليكس: حِرفية سينمائية تروي مقتطفات من رحلة الثأر

03 ديسمبر 2020
"فرقة نينوى" تقاتل "داعش" في الفيلم (يوتيوب)
+ الخط -

الخلفية التاريخية معروفة: تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) يُسيطر على الموصل، منذ يونيو/ حزيران 2014. تدريبات وتحضيرات سياسية وعسكرية تؤدّي إلى خوض معركة ميدانية لتحريرها، تُنفّذها "قوات عراقية" مختلفة، تضمّ رجال شرطة وعسكريين ومقاتلين في "الحشد الشعبي" وأكراد ومسيحيين. فرقة خاصّة باسم "فرقة نينوى للتدخّل السريع" تبدو كأنّها خلاصة كلّ شيء. تخوض معارك، وتخترق حواجز، وتتسلّل إلى "أرض العدو"، وتنجح في تحرير المدينة من مقاتلي "داعش".

"الحرب" ضد "داعش" تمتدّ من 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 إلى 10 يوليو/ تموز 2017. نهايتها واضحة: هزيمة التنظيم. المنصّة الأميركية "نتفليكس" تعرض فيلماً روائيّاً طويلاً بعنوان "الموصل" (2019)، منذ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. إنتاجه متنوّع، يبرز فيه اسم "إيماج نايشن" (أبوظبي)، بعد AGBO للأخوين الأميركيين أنتوني وجو روسّو، المشهورين بإخراجهما أفلاماً عدّة، أبرزها "كابتن أميركا" و"أفنجرز" بأجزاء عدّة لكلّ واحد منهما. إخراج "الموصل" لماثيو مايكل كارناهان. أسلوبه منتمٍ إلى أفلام "التشويق الحربيّ"، المستوفي قواعده بدقّة: حِرفية قتالية، وحبكة تجمع المعارك بقصص إنسانية، وموسيقى مؤثّرة في لحظات محدّدة، ونقاشٌ (متواضعٌ غالباً) في مسائل مرتبطة بمغزى الحرب والمعارك الفردية والتوجّهات العامة والخاصة لتفاصيل وهوامش، يُفترض بها منح الفيلم هدوءاً يُريح المُشاهد من عنفٍ ودمٍ وقسوة، ولو للحظات قليلة.

حِرفية التشويق الحربيّ حاضرةٌ في "الموصل". الفرقة معروفة، وتفاصيل المعركة الأخيرة لبقاياها مكتوبة في مقالةٍ بعنوان "المعركة اليائسة لتدمير تنظيم داعش (الدولة الإسلامية)" للوك موغِلْسن، منشورة في "ذو نيويوركر"، في 30 يناير/ كانون الثاني 2017، يرتكز عليها المخرج نفسه في كتابته السيناريو.

منذ اللحظات الأولى، يُقدِّم "الموصل" معلومات عن المناخ العام: الحرب بين "داعش" والعراق (القوات العراقية) تكاد تنتهي. أفعال التنظيم خلال سيطرته على المدينة (اغتصاب، تعذيب، قتل بـ"مقاييس القرون الوسطى"). التأكيد على أنّ "فرقة نينوى" وحيدةٌ في مقاتلة "داعش" يومياً "من دون راحة أو تراجع"، والفرقة مؤلّفة من أفرادٍ ينتمون إلى المدينة. "لا توبة" لمقاتلي الفرقة عند أسرهم من "داعش"، فأعضاء الفرقة يقتلون كثيرين من مقاتلي التنظيم، الذي لن يرحم أحداً منهم أبداً. أخيراً: الفرقة تُنفِّذ آخر مهمّة لها، وتجهد في إنهائها "قبل انتهاء داعش إلى الأبد".

تقديمٌ يختصر أشياء كثيرة ويُكثّفها، وإنْ يختلف حولها متابعون وعارفون بوقائع وحقائق. المعروف أنّ "فرقة نينوى للتدخّل السريع" تُساهم في تحرير المدينة من "داعش". الفيلم يعتبر أنّ ما سيُشَاهَد مرتبطٌ بالمهمّة الأخيرة لبقايا الفرقة. علاقة الفرقة بالمدينة متداولة في صحفٍ ومعلومات مختلفة. دورها كبيرٌ في مواجهة "داعش" والمساهمة في القضاء عليه. قيل أخيراً إنّ هناك "مغالطات" بخصوص كيفية تحرير المدينة، ودور الفرقة فيه. "الموصل" غير معنيّ مباشرة بهذا، فنصّه مبنيٌّ على آخر أفرادها، المتوارين عن الأنظار، والجميع يُدركون أنّهم أموات، بينما لديهم هم "مهمّة" أخرى يُنفّذونها سرّياً، بعيداً عن قيادتهم، وعن كلّ قيادة أخرى.

الخراب، الظاهر في مطلع الفيلم (أثناء ذكر المعلومات)، كثيرٌ وقاسٍ. البداية الفعلية تتمثّل بمعركة بالرصاص بين مقاتلي التنظيم، الساعين إلى تحرير اثنين منهم في قبضة شُرطيَّين عراقيين اثنين يحتميان في مطعم. إنقاذ الوضع لمصلحة الشرطيّين يحصل بفضل أفراد الفرقة، فتنكشف التفاصيل الأولى الخاصّة بهم، من دون تبيان المهمّة الأساسية المُنتَدَبين لتنفيذها، رغم إلحاح الكرديّ كاوة (آدم بِسّا)، الذي يُلحقه الرائد جاسم (سهيل دبّاغ) بالفرقة لسببين: حاجة الفرقة إلى عناصر، شرط أنْ يكون العنصر الملتحق بها أحد الناجين من جرائم "داعش" بحقّ أهله وعائلته. لفت الانتباه إلى أنّ كاوة كردي مطلوبٌ، للإشارة إلى أنّ مهمة القضاء على "داعش" غير محصورة بمذهب أو إثنية أو جماعة من دون الأخرى.

في ساعة و42 دقيقة، تنتقل الفرقة من مكانٍ إلى آخر، وتواجه تحدّيات ومعارك، وتنكشف ـ شيئاً فشيئاً ـ خفايا قليلة عن واقع مدينة، وحقائق أناسٍ يبحثون عن انتقامٍ من مقاتلي "داعش"، وإنْ يكن الانتقام عنيفاً فلا بأس، لأنّ جرائم مقاتلي التنظيم عنيفة أيضاً. أقوال قليلة تُقال ضد التنظيم ومقاتليه، ولقطات أقلّ تُصوّر لحظات صلاةٍ يؤديها مقاتلو الفرقة، كدليلٍ على أنّ الإيمان غير محصور بفئة واحدة. التنقّل والمواجهات والكشف مشغولة بحِرفية سينمائية، ترتكز على قواعد أفلام الحرب والتشويق، المحتاجة إلى متنفّسٍ، بين وقتٍ وآخر، يمتلك شيئاً من حساسية إنسانية: الرائد جاسم وتوقه إلى إنقاذ مُراهِقَين من شارعٍ، مكشوف عسكرياً؛ لحظات "تمتّع" أفراد الفرقة بحلقة من مسلسل كويتي في منزلٍ مهجور، و"تلطيشات" ساخرة ومُخفَّفة تتردّد بينهم عن الكويتيين؛ حزنٌ عميقٌ إزاء فقدان مُقاتل من الفرقة، وتبيان غير مباشر لعمق العلاقة الأخوية ـ الأبوية الرابطة بين الجميع؛ إشارات تقول إنّ بعض أفراد الفرقة أب يشتاق إلى عائلته.

مشاهد القتال محترفة، والممثلون مدرَّبون على خوض معارك ومواجهات بشكلٍ عسكري سليم، يشي بمهنيّة تصنع فيلماً عن مدينة وتنظيم وتحرير، لكنّه يبدو ـ في العمق ـ فيلماً عن الثأر من مقاتلي تنظيم متشدّد وعنيفٍ: "أعرف أنّ هدفاً سامياً ينتظرنا. لا بُدّ أنّه سام، فلولا ذلك لما كنتم تُقاتلون بهذه الشراسة، ولما عانيتم في هذا الجزء من المدينة"، يقول كاوة لرفاقه بعد "استشهاد" الرائد جاسم، وعندما يسأله كمال (قتيبة عبد الحقّ): "هل الأمور واضحة لك الآن؟"، يسأله كاوة: "وهل سنُحرِّر أهل كلّ رفيق لنا؟"، ويكون الجواب: "سنُحرِّر من لم تُقتل أسرهم حين سقطت المدينة". أما لماذا، فهذا يُفسّره كمال في مطالعة قصيرة، لكنّها كافية لكشف إحدى حقائق العمل الخاص بالفرقة: يرى الرائد جاسم أنّ للأفراد الأصغر سنّاً وقتاً أطول لإنجاب مزيدٍ من الأطفال، ما "يعني بناء المدينة أسرع". هذا مثاليّ للغاية، إذْ يحتاج البناء، عندها، إلى سنين طويلة للغاية. أمْ أنّ "الموصل" يبعث رسالةَ تفاؤلٍ ما؟

إهداء "الموصل" مكتوبٌ في أول "جينيريك" النهاية: "إلى أعضاء فرقة نينوى للتدخّل السريع، الذين فقدوا أرواحهم"، ثم لائحة بأسمائهم وتاريخ مقتل كلّ واحد منهم. بهذا، يتأكّد أنّ للفيلم هدفاً غير سينمائي فقط، فالانغماس في سرد حكاياتٍ متعلّقة بأفراد "فرقة نينوى للتدخّل السريع"، ومواكبة رحلة الثأر التي يقومون بها في آخر مهمّة لهم، يكشفان "تورّط" الإنتاج في صُنع صورة بهيّة عن أفرادٍ يُقاتلون من أجل مدينتهم وناسهم وحياتهم، وإنْ يبقى الثأر لديهم أقوى وأكثر حضوراً.

المساهمون