استمع إلى الملخص
- يلعب النظام اللمبي دورًا رئيسيًا في معالجة الموسيقى، حيث يساهم في توليد الخيال وتجاوز الواقع، مما يتيح تجربة شعورية فريدة دون الحاجة لمعاني محددة.
- توجه الموسيقى خيال المستمع عبر الرموز الصوتية، وتستمر في التأثير حتى في فترات الصمت، مما يخلق تجربة استماع تفاعلية وجذابة.
من سلسلة البودكاست الشهيرة The Hubermann Podcast، التي يعدّها ويقدّمها عالم الأحياء العصبية في جامعة ستانفورد الأميركية، أندرو هوبرمان، حلقةٌ خصّها حول الموسيقى وأثرها على الدماغ والجملة العصبية، شرح فيها وفق أحدث البحوث والدراسات، كيف أن العصبونات ما إن تستقبل عن طريق الأذن مقطوعة أو أغنية، تُباشر بفرقعة مخزوناتها الكيميائيّة، كألعاب ناريّة، وفق حركات مُنسجمة مع ما يرد من الأنماط الموسيقية الإيقاعية واللحنية.
إن دلّ هذا على شيء، إنما على عمق التحوّل الكياني الذي يطرأ على الإنسان من المنسوب الفيسيولوجي الأدنى، وذلك فورَ، وخلال تجربة السماع، التي باتت بدورها تزداد وضوحاً إزاء الكيفية التي تؤثر بها على كلا المجالين العضوي الحيوي، والنفسي الذهني. بموجب الاستجابة إلى ما يكتنز المسموع من حمولة حسيّة، تحدث أمزجةٌ تتراوح ما بين البهجة والكآبة وما بين الحركة والسكون، فتتبدّل تلقائياً الحالُ التي يدرك الإنسان فيها العالم بداخله ومن حوله.
بحسب دراسة نشرتها المجلة العلمية NeuroReport سنة 2008، فإن النظام اللمبي أو الحوفي القابع في أعماق الدماغ، والمسؤول عن الاستجابة السلوكية والعاطفية، هو المجال الذي يضطلع بمهمة معالجة الموسيقى عند سماعها، إذ تحدث في كل من الحُصين والمهاد واللوزة الدماغية.
توازياً، من المهام ذات النظام توليد الخيال، أي تلك الملكة البشرية الخاصة في إنشاء خواطر مصوّرة ضمن الوعي الفردي، متجاوزةً الواقع المُدرك في الزمان والمكان، تمسح تضاريس للمستقبل، وتُعيد تشكيل العالم وفق رؤية إبداعية ذاتيّة، إما على هوى أو على عكس ما يرغب المرء به ويشتهيه.
يمكن الاستدلال من ذلك الرصد أن كلّاً من الاستجابة الشعورية للموسيقى وآليّة توليد الخيال مرتبطان بحكم مقرّات الجملة العصبية المُختصة بهما. وعليه، يصبح التخيّل عند الاستماع إلى مقطوعة أو أغنية من صلب تجربة السماع. إلا أن الموسيقى، إذا ما استُثني منها مكوّنها الأدبي، أي القصيدة كما في الأغنية، مجازاً مُطلقاً، لا تُقيِّد تعابيرها عباراتٌ محدّدة، كما هي اللغة المحكية والمكتوبة، وإنما ترسل إشارات على شكل ألحان وإيقاعات، تتناغم أو تتنافر في الشدّة والنبرة، فتؤثِّر شعوريّاً في البشر، من دون أن تحمل معاني وسرديّات يُجمعون على فهمٍ مُوحّد لها.
مع ذلك، يبقى احتمال أن يزوِّد المؤلّف أو المُلحّن الموسيقى برموز صوتية تساهم في توجيه خيال المتلقّي نحو إنشاء صورةٍ بعينها، منها ما هو مشهدي تصويري، ومنها ما هو ثقافي مرتبط بعصر أو مكان. أحد الأمثلة هو المقطوعة السيمفونية التي أعدها لودفيغ فان بيتهوفن لأجل تصوير معركة فيكتوريا الفاصلة التي كُسرت فيها شوكة الإمبراطور الفرنسي نابليون على يد حلفٍ بين الإنكليز والنمساويين سنة 1813.
استخدم المؤلّف فيها آلات أوركسترالية تقليدية، أو أخرى أُعدِّت خصيصاً بغرض الإيحاء موسيقيّاً إلى البدء أو اندلاع وحتى انتهاء القتال. تُسمع الطبول والصنوج والأبواق وأشباهها تستحضر زحف الجنود، ودويّ المدافع والبنادق، فيؤطَّر خيالُ المستمع ضمن مشهدين رئيسيين، أجواء المعركة ومآلها من رثاء للموت والدمار أو تهليل للفوز والانتصار.
أما على صعيد استدعاء الرموز الثقافية، فتبرز أغنية المطربة أسمهان "ليالي الأنس في فيينا"، التي نظم كلماتها أحمد رامي وصاغ ألحانها فريد الأطرش، وصوّرت كفاصلٍ غنائي من فيلم "غرام وانتقام" سنة 1944. قد أراد الملحّن أن يوجّه خيال المستمع نحو مشهد حلبة رقص في العاصمة النمساويّة. علاوة على استخدامه مقامات غربية الهوية، إسناد اللحن الرئيس إلى قالب الفالس الثلاثي الشائع في البلدان الأوروبية، كألمانيا والنمسا.
يقع توجيه خيال المستمع بفعل العناوين والأسماء، التي اشتهر بها بعض المقطوعات موسيقية، مع أن كثيراً منها لم يرد على لسان مؤلّفيها، وإنما أطلقه النقاد والمؤرّخون والمؤرشفون. لم تشع سوناتا البيانو الأشهر لبيتهوفن باسم "ضوء القمر"، إلا بعد خمس سنوات على رحيله. منحه لها مجايله الشاعر والناقد لودفيغ ريلشتاب في سنة 1832، إثر تصوّره عند سماعه الحركة الأولى، ضوء القمر يُجلّل سطح بحيرة لوسيرن بسويسرا.
كذلك الأمر بالنسبة إلى السيمفونية السادسة للمؤلف بيتر تشايكوفسكي، التي صمّمها على شكل أربع حركات وعنونها بالروسية "السمفونية الحماسية"، إلا أن العنوان عندما تُرجم إلى الفرنسية، وبمقتضى تقارب بعض الألفاظ لاتينيّة الأصل بين اللغتين، صارت تُعرف باسم "السيمفونية الحزينة" أو العاطفية (Pathétique)، ليتوجّه المستمع إلى البحث في خياله عن صور ومواضيع الأسى والحزن.
المثير في الأمر أن سيرورة التخيّل عند الاستماع إلى الموسيقى، لا تقتصر على إنشاء المشهديات والصور، أو استحضار البيئات والعصور، ولا حتى بلوغ حالات شعورية متنوعة من نشوة، بهجةٍ أو كرب، وإنما يمكن أن تكون موسيقيّة صرفة، أي تبقى ضمن فلك المجاز المطلق، وذلك بحسب مقالة بعنوان "صوت الصمت: ماذا يحدث حين تتخيّل عقولنا الموسيقى؟"، منشورة سنة 2021، على موقع Technology Networks البريطاني، المختص بالكشوف العلمية السبقيّة.
توصّل علماء الأعصاب إلى أن الدماغ يستمر في استجابته أثناء عملية السماع، حتى خلال "السكتات" أي فواصل الصمت، حين يتوقف الصوت برهةً ويحلّ محلّه السكون. تقوم الاستجابة على تصوّر النغمة الآتية بُعيد السكتة، لتتراوح ما بين الطرب، إن أتت مفاجئةً غيرَ مماثلةٍ للصورة، والسأم إن ماثلتها منتجةً الإحساس بالرتابة والملل، وعليه يبدو أن الدماغ والجملة العصبية منخرطان في أشبه باستماعٍ تفاعليّ قائمٍ على ملكة الخيال وإنشاء الصور الموسيقيّة المجرّدة، ليصبح المستمع بذلك مشاركاً من خلال اقتراحه نماذجَ لحنية وإيقاعية، ما يُضفي على تجربة السماع جاذبيّة خاصة، لها مظاهر شعورية وعاطفية.