المرأة بحسب محمد صالح هارون: معالجة كلاسيكية لقضيّة مهمّة

المرأة بحسب محمد صالح هارون: معالجة كلاسيكية لقضيّة مهمّة

13 ابريل 2022
محمد صالح هارون: معاناة المرأة في مجتمع ذكوري (فاليري هاش/فرانس برس)
+ الخط -

تناول المخرج التشادي محمد صالح هارون، في Lingui ("الروابط المقدّسة"، 2021، 87 دقيقة)، مشاكل أساسية تحيط بالمرأة التشادية، كعديدين من الدول الأفريقية والعالم الثالث، رغم التقدّم الكبير في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وانفتاح المجتمعات بعضها على بعض، وإصدار القوانين المحلية والدولية لتُحقِّق المرأة مبتغاها وأهدافها، وتتساوى حقوقها مع الرجل. لكنْ، هناك مجتمعات لا تؤمن بهذا الدور، ولا تزال تنظر إلى المرأة على أنّها مزهرية في البيت، أو مصنع للولادة والتكاثر. لهذا، باتت مُقيّدة ومُحاصرة بالعادات والتقاليد التي أرهقتها، وأثقلت كاهلها عبر العصور.

انطلاقاً من هذه التيمة القديمة الجديدة، رصدت كاميرا هارون بعض هذه المظاهر، في جديده المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، كما اختير لافتتاح الدورة الـ32 (30 أكتوبر/تشرين الأول ـ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2021) لـ"أيام قرطاج السينمائية".

ركّزت الحبكة على شخصية الأم العزباء أمينة (أشواق أبَكار)، في مواجهة مفصلية مع ابنتها ماريا (ريحانة خليل عليو)، ذات الـ15 ربيعاً، بعد أنْ اكتشفت من مديرة المدرسة الثانوية أنّها حامل بطريقة غير شرعية، فطُردت منها لهذا السبب، ما ترك الأم في حيرة كبيرة، واصطدام عنيف مع هذه المشكلة التي حصلت معها في شبابها، حين طُردت من البيت. جراح الماضي ماثلة أمامها إلى الآن، من دون شفاء منها بعد، كأنّ التاريخ يُعيد نفسه مع ابنتها، ما جعلها تعاني بشكل مستمر، من طرف الأسرة والأقارب والمجتمع عامة، كونها أمّاً عزباء. لهذا، قرّرت إجهاض جنين ماريا كي لا تتكرّر المشكلة مجدّداً.

لن يكون الأمر سهلاً بالنسبة إليها، لأنها مُسلمة، والإسلام يُحرّم هذا السلوك، وتمنعه المؤسّسات الرسمية والعيادات الطبية. مع هذا، وجدت طبيباً يُجهض النساء بشكل غير قانوني، رغم مجازفته بسحب رخصته منه نهائياً، مع عقوبة بالسجن 5 أعوام، في حال انكشف أمره. لذا، طلب مبلغاً كبيراً من المال، أصابها بخيبة أمل، لكونها فقيرة معدمة، بالكاد تتدبّر قوت يومها. وإذا بها تُفكّر بمنح جسدها لجارها بْراهيم (يوسّوف جاوُرو)، الذي عرض عليها الزواج مراراً ليحميها من نظرات المجتمع، الذي لا يحترم المرأة العزباء ولا يقيم وزناً لها كما يقول.

وسط هذه الأحداث، تحدث خيبات عدّة، تتراكم على أمينة وتكاد تحطّمها، لأنّها امرأة لا صوت لها يُسمَع، ولا رأي منها يؤخذ به. منطلقات كهذه أغنت القصة، التي تناسلت منها معضلات ومشاكل أخرى تواجهها المرأة التشادية عامة، منها "ختان المرأة".

نقل محمد صالح هارون تقلّبات الأفراد وازدواجياتهم، وعمل على قيمة أخلاقية مهمّة للغاية: يجب ألاّ نحكم على الفرد من خلال ماضيه أو مظهره، لأنّ لكلّ شخص مناطق مظلمة، لا يُمكن كشفها بسهولة. هذا حدث مع براهيم مثلاً، الذي كان يخاف على أمينة، ويطلبها للزواج باستمرار، بحجّة أنّ المجتمع لا يرحم، ولا يقيم وزناً للمرأة العزباء. لكنْ، تبيّن لاحقاً أنّه هو من أقام علاقة مع ماريا، التي حملت منه، رغم أنه حريصٌ على أداء الصلاة جماعةً في المسجد، ومنها صلاة الفجر.

لربط هذا المعطى بأمينة، ينقل هارون في مشهدٍ حواراً بين الإمام وأمينة، سألها عن سبب تغيّبها عن أداء صلاة الفجر، فأخبرته أنّها متعبة جداً. عقّب عليها ناصحاً وشارحاً أهمية صلاة الجماعة في حياة المجتمع، وضرورة أنْ يكون المؤمن صالحاً، بينما كانت خافضةً رأسها بصمت، كأنّها تقول أنْ لا أحد يعرف ما في قلب الآخر من هموم ومشاكل وأحزان؛ وكأنّ الإمام يربط صلاح الفرد بما يقوم به ظاهرياً. للمخرج رأيّ في المسألة، يقوله عبر إحدى الشخصيات، التي تُثبت أنّ صلاح الفرد يكون بما يقوم به، سرّاً وعلانيّة، على عكس براهيم، الذي يُظهر عكس ما يُبطن. دليل ذلك ما فعله مع مُراهقةٍ، ابنة المرأة التي يزعم أنّه يحبّها.

 

 

بفضل هذا المشهد، يُفهم المجتمع الذي تعيش فيه أمينة، الأم العزباء التي تعمل في حِرفة شاقة لإطعام ابنتها، أي في تدوير إطارات السيارات، وهذا مشهد افتتاحيّ، يعطي صورة شاملة عمّا تعانيه هذه المرأة. لكنْ، ما يُثقل كاهلها أكثر، تعاملها اليومي مع أشكال مختلفة من النماذج البشرية، التي تحتقرها وتُعاملها بشكل غير انساني.

خلق هارون مستويات جمالية عدّة، معظمها متأتٍ من المشاهد الخارجية التي احتفى بها، كأنّه يريد من المُتلقّي أنْ يرى تركيبة هذه الفضاءات الخارجية، ودورها في خلق سلوك هذا المجتمع المليء بالتناقضات. ولعلّه كان يقول عبرها إنّ الوضع المعيشي يساهم بشكل كبير في خلق تلك التناقضات، ومنها عملُ فئة واسعة من المجتمع في مهن شاقّة، كتدوير براميل الحديد وعجلات السيارات والشاحنات، وبيع الخردوات، بالإضافة إلى نقص الخدمات العامة، كغياب قنوات الصرف الصحي، وعدم تعبيد الطرقات، وغيرها من معطياتٍ، تعكس الوضع الاقتصادي المتردّي، وتخلق مشاكل مجتمعية عدّة.

استطاع هارون صُنع جماليات بصرية من هذا القبح، مُشكّلاً، مع المُصوّر ماتيو جونبيني، كادرات ساحرة للغاية، كمشهد هروب ماريا، بفستان أبيض، في الشارع، ومشهد محاولة انتحارها في البحيرة المحاطة بالأشجار، ووقوفها على حافة البحيرة لحظة الغسق. كما أنّه ربط بعض المشاهد البصرية بأبعادٍ فلسفية، كصورة أمينة في باحة منزلها، رافعةً رأسها إلى السماء، التي تنتشر فيها سحبٌ متفرّقة، بينما الكاميرا أسفلها، تواجه السماء، مع تحليقها ودورانها. هذا يعكس أنّ العالم رحب، وأوسع من بيت أمينة، التي إنْ أرادت التحرّر فعلياً، عليها اختيار فضاء آخر يحترمها ويحترم خياراتها، وهذا ما فعلته، عندما قرّرت الرحيل من الحيّ الذي لا يحترمها، الى أماكن أرحب وأوسع، كفضاءات السماء.

نقل "الروابط المقدّسة"، بعناية فائقة، هموم المرأة التي تعيش في مجتمع ذكوري متسلّط، وأظهر أحلامها البسيطة الموؤودة، وكوابيسها التي لا تنتهي. ورغم أن الأحداث سارت ببطء وهدوء، وأعادت توظيف بعض الكليشيهات، اكتسب الفيلم قوّته الفنية من بساطة الطرح، والتشكيل الكلاسيكي للقصّة التي تتناسل منها قصص ثانوية عدّة، أوصلها محمد صالح هارون، كاتب السيناريو أيضاً، إلى حلول تمثّلت بنهاية سعيدة. كأنّه لا يريد الدخول في مغامرة تجريبية أو تجديدية لفيلمه، شكلاً ومضموناً، حتى لا يقتل القصّة، فاختار معالجة كلاسيكية. لكنّه استطاع أنْ يخلق من هذا الخيار فيلماً معقولاً، متناولاً مشكلة أساسية تعانيها المرأة التي تعيش في أفريقيا والعالم الثالث عامة.

المساهمون