المدينة بلا صوتها

المدينة بلا صوتها

11 نوفمبر 2021
رحل صباح فخري في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي (فرانس برس)
+ الخط -

رحل الفنان السوري صباح فخري (1933 - 2021)، وفي رحيله خسارة قاسية للفن الأصيل الراقي، في زمن "بسبوس عاشق بسة ويدلعها بسبوسة". رحل فخري وترك غصة كبيرة عند محبيه في العالم العربي، ممن يوصفون بالسميعة، وخلّف آهات وغصات أكبر وأكثر، عند أبناء مدينته حلب الشهباء.

غادر الفنان الحلبي صباح الدين أبو قوس المدينة، كمعظم أهالي حلب، حين اشتد القتال فيها عام 2012 بين النظام السوري وقوات المعارضة، وقسمت المدينة إلى غربية وشرقية، وعانى أهلها من انقطاع الكهرباء والماء وقلة الطعام، فضلاً عن المجازر التي ارتكبها النظام، وأهمها مجزرة نهر القويق. والقويق اسم نهرها الذي جف نتيجة قطع تركيا له، والسياسات التنموية الخرقاء.

لم يعد درب حلب شجر زيتون، ولا فستقاً حلبياً يزهر بألوانه الرائعة. ولم تعد أسواق حلب، ولا قلعتها، كما كانت، وكذلك لم يعد صوت صباح فخري كما كان... لقد شاخ صاحبه وترك المدينة من دون صوت، ولا حتى رثاء، عندما احترقت عام 2014.

مع بداية العهد الوطني في سورية، عمل صباح فخري على حفظ وتدوين وأداء الأغاني والموشحات الأندلسية والقدود الحلبية، كلمات وألحاناً (وفي هذا الإطار، نقرأ عن علاقته الوثيقة بشيخ الشباب السياسي والشاعر المهتم بالموسيقى ورقص السماح، فخري البارودي). واستطاع فخري أن يكون الأبرز بين مجموعة فنانين عاصروه وجايلوه، ولا يقلون قوة صوت ولا رهافة إحساس عنه، ومنهم الرائع الكبير محمد خيري، وأديب الدايخ، وحسن الحفار، ومصطفى ماهر، وصبري مدلل، وأيضاً بعض الفنانين الذين لم تتجاوز سمعتهم مدينة حلب، مثل أبو سمعو وأبو حسن الحريتاني.

إذن، ما الذي ميز فخري عن غيره؟ إنه التنظيم والاجتهاد والمتابعة والإصرار على تنفيذ مشروع متكامل، وفق منهج علمي صارم، تحول إلى مدرسة لاحقاً.

لم يكن صباح فخري وحده، ولا متفرداً بساحة الطرب. كان ابن جيله ومرحلته وابن مدينته التي تتوالد فيها أصوات بخامات فريدة ومتشابهة كل يوم، وهؤلاء يتدربون في الجوامع كمؤذنين، كما فعل صباح في فترة شبابه، وفي المدافن كقارئي قرآن على أرواح الموتى، وفي احتفالات المولد النبوي التي تضيء المدينة في 12 ربيع الأول من كل عام. وقبل ذلك، وبعده، في حلقات الذكر الصوفية، وفي حفلات الزواج التي تدعى عند الحلبية "التلبيسة".

موسيقى
التحديثات الحية

كانت التلبيسة، وما زالت، مفرخة الفنانين الحلبية، الذين يسيرون على هدي صباح فخري ومسيرته الناجحة فنياً، وأيضاً طريقهم للشهرة في المجتمع الحلبي، ولاحقاً ربما في دمشق وبيروت وتونس وغيرها.

المفارقة أن قلة منهم، وهم ليسوا بالضرورة الأفضل، حققوا شئياً من الشهرة والانتشار خارج حلب، وذلك لأسباب متعددة؛ أهمها قصور الإعلام السوري الرسمي والمحتكر الوحيد له في تلك الأيام، ومركزته في دمشق، فضلاً عن تاريخ المدينة القائم على إحساسها بالتفوق والتفرد، وأيضاً أحداث 1980، وموقف نظام الأسد الأب منها.

لم يكن صباح من أبواق السلطة؛ فلم يغنّ للأسد الأب، ولا الابن، ولا للحركة التصحيحية، أو ثورة مارس/آذار، كما فعل معظم مطربي سورية، ولكنه لم يكن كذلك من معارضيها. ترأس فخري نقابة الفنانين أكثر من مرة في بداية عهد الأسد الأب في سبعينيات القرن الماضي، ودخل مجلس الشعب عام 1998، وحظي بتكريم رأس النظام بشار الأسد، ولكن الاستثمار الرخيص من النظام لسمعته وقامته الفنية تأخر إلى ما بعد قيام الثورة، وبعد أن فقد "أبو محمد" سيطرته على جسده، وأنهكه المرض، وأيضاً طموح الابن أنس فخري.

عندما رحل صباح فخري، قبل أيام، حرص النظام المعروف عنه تجاهل مبدعيه، على تشييع رسمي شبه عسكري، وحضر جنازته ومجلس عزائه كل أركان النظام، فبعد تدمير المدينة؛ لا بد من إقامة مأتم عزاء يليق بها.

المساهمون