"اللي باقي منك"... لحظة فقدان البيت والبستان في يافا

29 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 08:36 (توقيت القدس)
المخرجة شيرين دعيبس في لقطة من الفيلم (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مهرجان بلاك ستار السينمائي في فيلادلفيا يعرض أكثر من 90 فيلماً من 40 بلداً، ويُعتبر منصة للأصوات المستقلة والمهمّشة، حيث يتقاطع التعبير الفني مع العدالة الاجتماعية.

- فيلم "اللي باقي منك" للمخرجة شيرين دعيبس يبرز في المهرجان، ويتناول قصة عائلة فلسطينية من نكبة 1948 حتى انتفاضة الثمانينيات، ويُعتبر جزءاً من سينما الشتات الفلسطيني.

- عرض الفيلم في المهرجان يُبرز أهمية سينما الشتات كفعل مقاومة ثقافية، حيث يعيد صُنّاع الأفلام تشكيل السردية من منظورهم الخاص.

تنطلق الدورة الرابعة عشرة من مهرجان بلاك ستار (BlackStar Film Festival) بين 31 يوليو/تموز الحالي والثالث من أغسطس/آب المقبل، محتفية بما يزيد عن 90 فيلماً من 40 بلداً حول العالم. يُعرف هذا المهرجان، الذي تأسس في فيلادلفيا الأميركية، ليكون منصة للأصوات المستقلة، بأنه أكثر من مجرد تظاهرة سينمائية؛ هو فضاء للنقاش والتعلم والتواصل، تتقاطع فيه العدالة الاجتماعية مع التعبير الفني، وتُمنح فيه المساحات للأصوات المهمّشة كي تُسمع وتُرى وجوه أصحابها.
ضمن هذا الزخم المتعدد الثقافات والمرجعيات، يبرز فيلم "اللي باقي منك" للمخرجة الفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس، واحداً من أبرز العروض الخاصة لهذه الدورة، ومساهمةً فنية تستحق التوقف أمامها نقدياً وتحليلياً، ليس لكونها فقط تحكي عن فلسطين، بل لأنها تفعل ذلك بلغة سينمائية ناضجة، تتجاوز الشعارات، وتغوص عميقاً في نسيج التجربة الإنسانية. يتناول حكاية 75 عاماً، ليروي قصة عائلة فلسطينية من نكبة 1948 حتى انتفاضة أواخر الثمانينيات، مستخدماً تقنية السرد المتداخل؛ إذ تتحدث الأم، التي تلعب دورها دعيبس نفسها، في مشهد محوري إلى الكاميرا مباشرة، لتروي حكاية ابنها المصاب، لكنها سرعان ما تنسحب إلى الماضي، إلى جذور الألم، إلى لحظة فقدان البيت والبستان في يافا، وإلى المعتقلات، ثم التهجير والمعيشة القسرية في الضفة الغربية.
ربما لا يكون من السهل تناول موضوع مثل النكبة سينمائياً من دون السقوط في فخ الخطابة أو التوثيق الجاف، لكن دعيبس تتمكن من تحويل المأساة إلى ملحمة شخصية، عبر شخصيات من لحم ودم، تتقاطع حياتها مع التاريخ، من دون أن تذوب فيه. يأتي هذا الفيلم ضمن مسار ما تمكن تسميته سينما الشتات الفلسطيني، وهي موجة من الأعمال التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين على يد مخرجين ومخرجات من أصول فلسطينية، يعيشون في المهجر، ويستخدمون أدوات السينما المستقلة لسرد حكايات تتجاوز الإطار الوثائقي أو السياسي المباشر. هذه الموجة، التي يُمكن أن نضم إليها أعمال إيليا سليمان، وآن ماري جاسر، ومهدي فليفل، ومي المصري، تسعى إلى إعادة رسم ملامح الهوية الفلسطينية بصيغ فنية مركبة، تمزج بين اليومي والتاريخي، وبين الخصوصي والعام.
في هذا السياق، لا يبدو فيلم دعيبس استثناءً، بل يمثل تطوراً لافتاً في هذه الموجة، فهي مخرجة تميل رؤيتها إلى ما بعد الواقعية، إذ يتداخل التوثيق مع الحكي، والحميم مع السياسي. وقد سبق لها أن قدمت هذا المنهج في فيلمها الروائي الأول "أمريكا" عام 2009، الذي حصد إعجاب النقاد في مهرجان صندانس. لكن "اللي باقي منك" يبدو أكثر طموحاً، من ناحية البنية الدرامية والزمن السردي والتشظي العاطفي.
في أحد تصريحاتها، قالت دعيبس إنها تشعر بأنها تعيش في مكان ما بين الثقافات، وأن ما تحاول التقاطه في أفلامها، هو تلك المسافة الرمادية بين الفقد والانتماء. هذه المسافة التي تحدثت عنها دعيبس تحديداً هي ما تمنح فيلمها نبرة خاصة. فهو لا يسعى إلى تقديم فلسطين رمزاً أو أُسطورة، بل حياة مجروحة، وممتدة، ومتناقضة، وتعيش يوماً بيوم تحت الاحتلال، لكنها لا تتوقف عن الرقص، أو الحلم، أو تعليم الأطفال.
تُقدم دعيبس شخصياتها ضمن شبكة من المشاعر المركّبة، فهنا الجد الذي لا يتنازل عن روايته، والابن الذي يبحث عن مخرج، والحفيد الذي يُجبر على اتخاذ قرار وجودي. ومع أن الفيلم لا يتجنب المشاهد القاسية، إلا أنه لا يغرق في العنف، بل يحوّله إلى خلفية وجودية، تسائلنا نحن المشاهدين: ماذا يعني أن تكون فلسطينياً بعد 75 عاماً من الطرد والمنفى؟ وماذا يبقى منا بعد كل هذا؟
ليس من المبالغة القول إن عرض هذا الفيلم في "بلاك ستار" يضيف طبقة دلالية مهمة. فالمهرجان، الذي يحتفي بالأفلام المستقلة، ويمنح الأولوية للأصوات السوداء والهويات المهمّشة، يُمثل مكاناً طبيعياً لعرض عمل كهذا؛ إذ تتقاطع تجربة الشعب الفلسطيني مع نضالات الشعوب الأصلية، والأقليات، والجاليات المهمشة حول العالم، وكلها تبحث عن مساحة للقول والرؤية.

وفي هذا التقاطع تحديداً، تظهر أهمية سينما الشتات بوصفها فعل مقاومة ثقافية، يعيد عبره صُنّاع الأفلام تشكيل السردية من منظورهم الخاص، بعيداً عن هيمنة السوق أو الخطاب الاستشراقي. ما يمنح فيلم "اللي باقي منك" قوته، ليس فقط ما يقوله، بل كيف يقوله، ومن يقوله، ولمن. ففي زمن يتسارع فيه محو الذاكرة الفلسطينية، تُشكل أعمال مثل فيلم شيرين دعيبس ضرورة فنية وأخلاقية. إنها تُعيد ترتيب الحكاية، لا لتقنعنا بعدالة القضية فقط، بل لتجعلنا نشعر بها، ونراها، ونتنفسها.

المساهمون