الفيلم الفلسطيني "حمى البحر المتوسط": جمالية سينما تخطف "نظرة" كانّ

الفيلم الفلسطيني "حمى البحر المتوسط": جمالية سينما تخطف "نظرة" كانّ

30 مايو 2022
الفلسطينيون مها الحاج وأشرف فرح وعامر حليحل في كانّ (باتريسيا دي ميلو موريرا/ فرانس برس)
+ الخط -

بعد روائي أول لافت للانتباه، "أمور شخصية" (2016)، عُرض للمرة الأولى دولياً في برنامج "نظرة ما"، في الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، عادت المخرجة الفلسطينية مها الحاج (1970) إلى البرنامج نفسه، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" أيضاً، بفيلمها الروائي الثاني، "حمى البحر المتوسط".

في سيناريو (مها الحاج) مكتوبٌ بحِرفية وصدق (جائزة أفضل سيناريو في "نظرة ما" 2022)، ومع شخصيات حيّة مُقنعة ومرسومة بعناية، وخيوط حبكة تهتمّ بالتفاصيل الدقيقة، وفكرة عامة لا تخلو، بذكاءٍ، من الهمّ السياسي الفلسطيني، من دون تناول مُباشر، ولا من أبعاد فلسفية ذات عمق إنساني ـ نفسي أولاً، صاغت مها الحاج أفكارها بمهارة، ونجحت في اقتحام عالم الرجال، وطرح ماهية الصداقة بينهم، وكيف أنّ الضعف والهشاشة وعدم الاتزان من مكوّنات العالم الذكوري، في إطار عام يسبر معنى الحياة، وصعوبات الوجود والتأقلم معه، أو رفضه. وهذا كلّه من دون زيادات أو ترهّل أو ضعف، في الجوانب الفنية المختلفة، لتُرَسِّخ حضورها القوي كمخرجة، صاحبة مشروع صادق ومتنوّع، ورؤية لافتة للاهتمام، وتوجّه فني متميّز.

في "حمى البحر المتوسط"، تقدّم الحاج فيلماً كوميدياً أسود، مليئاً بالمفاجآت والانقلابات، وتبدّل المواقف، وتغيّر النفسيّات، وردود أفعال الشخصيات، في خيوط مُشوّقة، يصعب التنبؤ بها مُسبقاً، أو بأي اتجاه ستتطوّر وتنتهي. هناك اشتغالٌ ملحوظ في الحوار، الملائم جداً لكلّ شخصية، ويكاد لا يخلو أبداً من طرافة وكوميديا، رغم سوداوية الموضوع، ما ساهم في خلق حيوية وتدفّق، زاد منهما الاختيار الجيّد للممثلين، والإدارة الجيدة لهم.

تدور أحداث "حمى البحر المتوسط" في حيفا، مع وليد (عامر حليحل)، في منتصف العمر، روائيّ لم يكتب أول رواية له بعد، لكنّه يحاول، رغم تعثّره الواضح لأسباب عدّة، معظمها غير جليّ. يشعر وليد بأنّه يحمل ثقل العالم على كتفيه، وبأنّه في سجنٍ كبير (السجن الفلسطيني). منذ عامين، يُعاني اكتئاباً شديداً، يبدو مزمناً. لا يواظب على حضور جلسات العلاج، ويرفض تناول الدواء الذي تعطيه إياه طبيبته النفسية، لشعوره الراسخ بانعدام أي جدوى.


رغم هذا، هو أبٌ مثاليّ في منزله. يعتني بنظافة المنزل، ويهتمّ بالطبخ، ويصطحب طفليه إلى المدرسة. أمورٌ تنشغل عنها زوجته، بسبب عملها الصعب ممرضة في مستشفى كبير. باختصار، إنّه رجل طيب وهادئ، يُحبّ زوجته وطفليهما، وعلاقته جيدة بوالديه، وليس هناك ما يوحي بغرابةٍ أو تطرّف أو عنف في سلوكه الحياتي، باستثناء مشاهدته الدائمة أخبار الداخل الفلسطيني، الباعثة على الحزن والكآبة، وتشدّده في تشجيع طفليه على التحدّث باللغة العربية لا العبرية، وجداله مع الآخرين بخصوص الهوية الفلسطينية.

نقيضه، جار جديد له يُدعى جلال (أشرف فرح)، انتقل حديثاً إلى الشقة المقابلة لشقّته. غير مهتمّ بالواقع الفلسطيني. يعشق المرح، ويعتنق اللامبالاة. رغم مُمانعة وليد وتحفّظه، في البداية، تعقد صداقة وثيقة بينهما، تدريجياً، مع أنّ اختلاف عالميهما واضح، فجلال، عامل البناء ظاهرياً، ينتمي إلى عالم الجريمة شبه المنظّمة، أي أنّه مصدر خطر. أمرٌ يجذب إليه وليد فور اكتشافه، بدلاً من أنْ يُبعده عنه. ذريعته كامنةٌ في رغبته في كتابة رواية عن عالم الجريمة والمجرمين، وجلال خير معين له في هذا.

مع تطوّر الصداقة بينهما، تتضح الماهية الإنسانية الهشّة لجلال، أكثر فأكثر. بعيداً عن سلوكه الإجرامي وعالمه الخفي، وعن حياته المزدوجة، يبرز إخلاصه لصديقه الجديد وليد، وخوفه عليه وعلى حياته، وعلى وضعه المأزوم. تدريجياً، يُدرك جلال أنّ قصّة وليد تتغيّر باستمرار، وأنّ كتابة الرواية ذريعةٌ لشيءٍ أكبر وأعمق يُلح وليد في طلبه. تفشل المحاولات. لكنْ، بعد تعرّض جلال لضغوط مادية قوية، وضرورة تدبير مبلغ كبير في أسرع وقت، واكتشاف وليد أنه من محترفي صيد الخنازير البرية، وأنّه يبرع في استخدام بنادق الصيد، يواجهه بطلبه، ويُصرّ عليه لتنفيذه، كخدمة من صديق إلى صديق، لم يعد يرغب في الحياة.

يُشير عنوان الفيلم، "حمى البحر المتوسط"، إلى مرضٍ، تقول الطبيبة إنّ ابن جلال الأصغر مُصابٌ به. عندما سألها عن ماهية هذه الحمى، ردّت عليه بالقول إنّه موروثٌ، يقتصر على المنطقة التي يعيشون فيها، أي منطقة الشرق الأوسط. لا يهتمّ الفيلم بالمرض الجسدي للابن، فمرض حمى البحر الأبيض المتوسط، إجمالاً، إحالة أخرى إلى العبء السياسي والاجتماعي والنفسي لكون المرء فلسطينياً يعيش في حيفا خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط عامة.

"حمى البحر المتوسط" إنتاج مشترك بين فلسطين، وقطر، وألمانيا، وفرنسا، وقبرص، وقد شارك في الإنتاج مجموعة من الشركات والمؤسسات بينها شركة ميتافورا، وثناسيس كاراثانوس، ومارتن هامبل، وماريوس بيبريدس، وجانين تيرلينغ. كما أن العمل حاصل على دعم برنامج المنح التابع لمؤسسة الدوحة للأفلام.

المساهمون