الفلسطينيون... كتلة بشرية بلا ملامح

16 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 10:03 (توقيت القدس)
مدير مستشفى العودة في غزة الطبيب أحمد مهنا بعد تحريره من الأسر، أكتوبر 2025 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- منذ السابع من أكتوبر 2023، أظهر الخطاب الغربي انحيازًا لغويًا يعيد إنتاج الترتيب الاستعماري القديم، حيث يُنظر إلى الفلسطينيين كجماعة بلا قيمة فردية، بينما يُمنح الإسرائيليون توصيفات إنسانية، مما يخلق تعاطفًا انتقائيًا.

- في الإعلام، يُستخدم مصطلح "رهائن" للإسرائيليين و"أسرى" للفلسطينيين، مما يبني هرمًا أخلاقيًا يضع الإسرائيليين كضحايا ويمحو الفردية الفلسطينية.

- برزت مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة للفلسطينيين لنقل قصصهم، مستعيدين هويتهم الفردية ومواجهة التحيز اللغوي والإعلامي الغربي.

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كشف الخطاب الغربي السياسي والإعلامي عن منظومة لغوية متماسكة أكثر مما هي عفوية. فالمسألة لم تكن انحيازاً مؤقتاً بقدر ما هي ممارسة لغوية راسخة، تُعيد إنتاج الترتيب الاستعماري القديم نفسه: مركزٌ ناطق باسم "الإنسانية"، وأطراف يُعرّفها هذا المركز وفق حاجته الأخلاقية والسياسية.
في هذا الترتيب، لا يُرى الفلسطيني بوصفه فرداً ذا قيمة ذاتية، بل كائناً جمعيّاً، يُستخدم حضوره لتحديد مصطلحات مثل "المدني"، و"الضحايا" و"العنف"، والحرب نفسها، وفقاً للمعايير الغربية. فاللغة هنا، ليست وسيلة نقل للواقع، بل وسيلة تشكّله، فتُمنح عبرها بعض الأجساد حقّ الحزن، وتُجرّد أجساد أخرى من هذا الحقّ.
لهذا بدت معظم البيانات الغربية، منذ الأيام الأولى للحرب، مطابقة في نغمتها: الإسرائيليون "عائلات" و"أطفال" و"مدنيون"، حتى وإن كانوا جنوداً في جيش الاحتلال، يتحوّل ذلك في السردية إلى تفصيل هامشي لا داعي لذكره، أما الفلسطينيون فهم "شعب غزة". التوصيف الأول إنسانيّ وشخصيّ، يُقَرّب الضحايا إلى المتلقي الغربي عبر صورة البيت والعائلة. أما التوصيف الثاني، فيُشيّئ الفلسطينيين، يذيبهم في جماعة بلا أسماء ولا وجوه. هذه الصيغة، التي تتكرّر في كلّ تصريح رسمي، ليست سهواً بل جزء من سياسة لغوية، فتُنتج تعاطفاً انتقائياً، وتُبرّر تفاوتاً في الحزن، وتجعل موت الفلسطيني قابلاً للتجاهل لأنه غير محدّد بشخصٍ أو اسمٍ أو قصة.
وفي الإعلام، اتخذ هذا التمييز أشكالاً أكثر مباشرة من الخطاب السياسي. خلال تغطية تبادل الأسرى الأخيرة، أصرّت القنوات الغربية على استخدام كلمة "رهائن" لوصف الإسرائيليين المحتجزين في غزة، مع أنهم جنود في جيش الاحتلال، أي أنهم "أسرى حرب" بينما تحدّثت عن "الأسرى الفلسطينيين" أو "المفرج عنهم"، قرابة ألفي فرد، أي ألفي حكاية، وألفي عائلة، أصبحوا كلهم، كتلة واحدة بلا ملامح: الأسرى الفلسطينيون، هكذا بلا أي تفصيل آخر. حتى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما

، في منشور ترحيبي بوقف إطلاق النار استخدم التالي: "نشارك العائلات الإسرائيلية الألم، ونتمنى الأمان لشعب غزة". العائلة (الإسرائيلية) مقابل الشعب (الفلسطيني)، القرب (الحميمية) مقابل العموم (البرود والمسافة).
كلمة "رهينة" تستدعي تلقائياً مشاعر الخوف والشفقة، أما "أسير" فتنقل المتلقي إلى عالم السياسة والجرم والعقاب والحرب. هكذا، ومن خلال الاختيار اللغوي وحده، يُبنى الهرم الأخلاقي: الإسرائيليّ ضحية، والفلسطينيّ حالة.
حين عرضت وسائل الإعلام الغربية قصص "الرهائن" الإسرائيليين، قدّمت كل واحد منهم بوصفه إنسانًا كاملًا — صور طفولته، هواياته، عائلته التي تنتظره. في المقابل، صُوّر الأسرى الفلسطينيون في شكلٍ جماعي بلا وجوه محددة ولا قصص خاصة، كما لو أن حكاياتهم متشابهة أو لا تستحقّ التفصيل. لم يُسأل أحد عن الاعتقال بلا محاكمة، ولا عن الأطفال الذين خرجوا من السجون بعدما كبروا فيها. التغطية التي تحتفي بالفرد الإسرائيلي تمارس في الوقت نفسه محواً للفرد الفلسطيني.
حتى حين أعلنت فرنسا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين مثلاً، بدا أن هذا الاعتراف، كما عكسته التغطيات الإعلامية، يتعلّق بكيانٍ سياسي لا بشعبٍ حيّ. الصحف والقنوات الفرنسية تناولت الحدث بوصفه مسألة دبلوماسية، أو إشارة رمزية في السياسة الخارجية، لا تعبيراً عن اعتراف بوجود ملايين البشر الذين يُبادون يومياً منذ ثمانية عقود. كأن فلسطين كيان قانوني معلّق في الهواء، بلا لحمٍ ولا دمٍ ولا ذاكرة. فبدا الاعتراف (على رمزيته وانعدام تأثيره السياسي) أشبه بإضافة اسمٍ إلى قائمة الأمم، لا إعادة إنسانيةٍ إلى شعبٍ يُباد.

من هذا الخطاب الإعلامي والسياسي، جاءت أهمية مواقع التواصل الاجتماعي خلال هذه الحرب. فبينما حاولت المؤسسات الإعلامية الكبرى فرض روايتها، ظهرت شبكة واسعة من الشهود داخل غزة، تنقل ما يجري لحظة بلحظة. ورغم القيود المشددة على المحتوى الفلسطيني، فإن الرقابة كانت شبه مستحيلة. آلاف الفلسطينيين في القطاع استخدموا هواتفهم ليرووا قصصهم بأنفسهم، وجعلوا من منصات مثل إنستغرام وتيك توك وتليغرام أرشيفاً حيّاً للحياة تحت القصف. على هذه الشاشات الصغيرة استعاد الفلسطينيون أسماءهم ووجوههم، صار لكلّ شهيد صورة ولكلّ حيّ صوت. لم تعد غزة "شعباً" في النشرات، بل أفراداً يطبخون على النار في العراء، يحملون أطفالهم بين الركام.
على كل حال، هذا الانحياز اللغوي في الإعلام والخطاب الرسمي لا يُختزل في المصطلحات، بل في البنية العميقة للتفكير الغربي في "الآخر". ففي المخيال السياسي والإعلامي الغربي، يُمنح التعاطف لمن يشبه المتلقي ثقافيًا، ويُسلب ممن يقف خارجه. لذلك يحتاج الفلسطيني دائماً إلى تبرير إنسانيته — أن يثبت أنه يحبّ أطفاله، ويعيش في بيتٍ عادي، ويحلم حياة عادية، يصبح إنساناً فقط حين يقنع العالم بأنه ليس تهديداً.

المساهمون