استمع إلى الملخص
- يركز العمل على شخصيتي أركانجيلا وسيرافينا، اللتين تتحولان من ضحايا إلى جلّادات في نظام اجتماعي قمعي، ويستخدم الإيحاء والرمز لتشريح هذا النظام.
- يعكس المسلسل الإفلاس الأخلاقي للمجتمع المكسيكي، مسلطًا الضوء على الفقر والفساد وتواطؤ السياسيين، ويكشف استمرار العنف ضد النساء، مع نهاية تراجيدية بصرية وأخلاقية.
يواصل المخرج والكاتب والمنتج المكسيكي لويس إسترادا خطه الفني الذي يجمع بين السخرية السياسية الحادة والتشريح الجريء للبنى الاجتماعية الفاسدة في المكسيك. وفي مسلسله الجديد "الفتيات المغدورات" المعروض على "نتفليكس"، يقدّم عملاً يختلط فيه الرعب بالسخرية، والواقعية السياسية بالخيال الأسود، مستلهماً واحدة من أكثر القضايا بشاعة في التاريخ المكسيكي المعاصر: قضية "لاس بونكيانتس"، الأخوات الأربع اللواتي أدرن في الستينيات إمبراطورية دعارة حصدت أرواح ما لا يقل عن مئة فتاة.
ورغم أن المسلسل يبدو في ظاهره عملاً عن الجريمة، إلا أن طبقات المعنى التي ينسجها إسترادا تتجاوز القصة البوليسية إلى نقد اجتماعي وسياسي لاذع، يعرّي الفساد البنيوي للدولة والسلطة والكنيسة، ويعيد مساءلة فكرة "الشر" في مجتمع يشارك فيه الجميع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، في الجريمة.
القضية الأصلية التي استند إليها المسلسل دخلت موسوعة غينيس بوصفها أكثر شراكات القتل غزارة في التاريخ. فقد عثرت الشرطة عام 1964 على جثث مدفونة في حديقة أحد بيوت الدعارة التي كانت تديرها الأخوات غونزاليس فالينزويلا في وسط المكسيك، قبل أن تكتشف لاحقاً عشرات الجثث الإضافية في مزرعتهن. ومع أن النساء كنّ ضحايا نظام قاسٍ يستغل أجسادهن، فإنهن تحوّلن بدورهن إلى أدوات قمع وتعذيب لغيرهن من الفتيات القاصرات اللواتي أُجبرن على العمل في الدعارة وتعرّضن للتجويع والإجهاض القسري والعنف.
لكن إسترادا لا يقدّم عملاً توثيقياً بقدر ما يقدّم تأويلاً فنياً وفلسفياً للحدث، مستنداً إلى رواية الكاتب خورخي إيبارغوينغويتيا الصادرة عام 1977، والتي أعادت سرد القصة بلمسة ساخرة تمزج التهكم بالمأساة. وكما فعل الكاتب، يخفّف إسترادا من وحشية الأخوات، ليحوّلهن إلى ضحايا لظروف اقتصادية واجتماعية، ويمنح المتفرّج مساحةً للتعاطف معهن رغم بشاعة ما اقترفنه.
في المسلسل، يركّز إسترادا على شخصيتين أساسيتين: أركانجيلا، الجشعة والعنيفة، وشقيقتها الصغرى سيرافينا، الحسّاسة والعاطفية. تحيطان نفسيهما بمجموعة من الرجال الخاضعين – ضابط جيش، وخادمة غامضة، وجندي محارب، وسائق صامت – يشاركون في دوامة القتل والتعذيب. هؤلاء ليسوا وحوشاً بالكامل، بل مجرّد أدوات طيّعة، تمثّل ما وصفته هانا آرنت بـ"تفاهة الشر" وغياب التفكير النقدي.
يستخدم إسترادا الحكاية لتشريح نظام اجتماعي أبوي يقهر المرأة ويعيد إنتاج القهر عبرها. البطلتان ليستا مجرد مجرمات، بل نتاج بيئة من القمع والاستغلال، يتحوّلن فيها من ضحايا إلى جلّادات، في حلقةٍ لا تنتهي من العنف المتبادل.
على المستوى الجمالي، يستعيد المسلسل روح أفلام النوار في الخمسينيات، بموسيقاه التصويرية القوية وظلاله الثقيلة وإيقاعه البطيء الذي يتصاعد تدريجياً من الكوميديا السوداء إلى التراجيديا. يختار إسترادا الابتعاد عن العُري والمشاهد الصادمة التي تميّز الإنتاجات الحديثة، معتمداً على الإيحاء والرمز أكثر من الإظهار.
الحبكة غير خطّية؛ كل حلقة تركّز على شخصية أو تفصيل صغير يُعاد تفسيره لاحقاً، مثل حلقة "الأسنان الذهبية" التي تنقلب في النهاية إلى مفتاح لفهم القصة بأكملها، في استلهامٍ واضح من "المواطن كين" لأورسون ويلز.
وراء الجريمة، يُبرز إسترادا الإفلاس الأخلاقي للمجتمع المكسيكي: الفقر والجشع والفساد وتواطؤ السياسيين والشرطة والجيش، بل وحتى رجال الدين. ففي أحد المشاهد المدهشة، يبارك الكاهن المحلي بيت دعارة جديداً للأخوات بحضور مسؤولين كبار، في مشهد يختصر ببلاغة سخرية المخرج من السلطة الدينية والسياسية. هذا المشهد الذي يستحضر روح لويس بونويل يتحوّل إلى كاريكاتور فاضح لزيف الطهر الاجتماعي، حيث الجميع متورّط، حتى من يفترض أنهم حماة الأخلاق.
يعمل المسلسل كـ"مرآة قاتمة" تكشف استمرارية العنف ضد النساء وتغلغل الفساد في مؤسسات الدولة بعد ستين عاماً من الجريمة الأصلية. يذكّرنا إسترادا بأن المكسيك اليوم ما زالت تواجه اختفاء النساء، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وضعف المحاسبة، وأن "الفتيات المغدورات" ما زلن جزءاً من الواقع، لا من الماضي.
ومع تقدّم الحلقات، يتكثّف الشعور بالتشاؤم. تفقد الشقيقات مكانتهن الاجتماعية ويغرقن في العزلة والجنون، محاصرات في بيت موحش مع فتيات يائسات لا مفر لهن. تتحوّل النهاية إلى تراجيديا بصرية وأخلاقية، توازن بين الواقعية القاسية والرمزية السوداء.
ورغم طول بعض الحلقات وتشعب الحبكات الفرعية، ينجح إسترادا في بناء عمل متماسك يجمع بين الرعب، والنقد السياسي، والكوميديا السوداء، في تجربة تلفزيونية تثبت مرة جديدة أن الفن المكسيكي قادر على تحويل أكثر الوقائع ظلمة إلى عمل إنساني ساخر يفضح السلطة والفساد دون أن يفقد حسّه الجمالي أو إنسانيته.