استمع إلى الملخص
- فيلم "الصفّ الأول" (2024) يعكس هذا التراجع، حيث يروي قصة عائلتين تتنافسان على مكان في الشاطئ، لكنه يعاني من نقص العمق الدرامي واعتماده على كليشيهات دينية واجتماعية.
- ضعف السيناريو وغياب العمق الفكري في "الصفّ الأول" جعلا الفيلم يفتقر إلى الهوية الفنية، ولم يتمكن الممثلون من تعويض هذا الضعف.
رأيٌ يمكن الاتفاق عليه: أفلام مرزاق علواش، في السنوات الأخيرة، تفتقر إلى النضج السينمائي، ولا تعكس مسار مخرج مثله، صنع فرقاً في التجربة الجزائرية، وصار مرجعاً تتمّ العودة إليه مع كلّ نقاشٍ أو تصنيف أو توثيق في الفن السابع الجزائري، خاصة "عمر قتلته الرجولة" (1976)، الذي بات إرثاً مهمّاً، ينضحُ بالتأويل مع كلّ مراجعةٍ له، إضافة إلى أعمال أخرى أثّثه مساره.
لكنّ علواش لم يحافظ على هذا المسار المُضيء، وأصبح يخرج أفلاماً مجرّدة من العمق والسحر والدلالة، تضجّ بالثرثرة والحوارات الفجّة، والصُّور النمطية غير النافعة، وهذا معطى ساهم في رسم صورة قاتمة لهذه التجربة، ما يُحتمّ على النقاد وصنّاع السينما مواجهتها ورصد عيوبها وهناتها، على أنْ يأخذها المخرج جدّياً، بدل مواصلة مسار يقود إلى طريق مسدودة.
هذه الأحكام النقدية وغيرها يُمكن إسقاطها بسهولة تامّة على "الصفّ الأول" (2024)، آخر أعمال علواش كتابةً وإخراجاً: عائلةٌ يرغب أفرادها في تمضية أول يوم صيفيّ على الشاطئ، فيستيقظون فجراً للتمكّن من الوصول باكراً والحصول على مكان لهم في الصفّ الأمامي، والاستحواذ على إطلالة على البحر الجميل. تتكوّن العائلة من الأمّ، زهرة بودربالة (فتيحة وراد)، وخمسة أبناء. بوصولهم باكراً، كان الشاطئ فارغاً من المصطافين، فاستقرّوا في الواجهة المباشرة للبحر. لكنْ، تحصل أشياء كثيرة تُفسد عليهم يومهم المثالي، خاصة بعد وصول عائلة أخرى، تستحوذ على الصفّ الأول أيضاً حاجبة عليهم الرؤية، فيتأزّم الوضع، وتحدث مواجهة، مع أنّ العائلة الثانية جارة للأولى، تجمعهما خصومات قديمة.
العائلة الثانية تتألّف من صوفيا قدوري (بشرى روي)، زوجة عثمان قدوري (هشام مصباح)، مُتفاخر يعمل في التهريب بين الجزائر وفرنسا، وأبنائهما. بوصولهم إلى الشاطئ، تبدأ مواجهات جديدة، ستبلغ نقطة مُتقدّمة جداً.
اعتمد علواش المعاني اليقينية، التي يتمّ تأويلها وتفسيرها بشكل نهائي، فلا يحتاج فيها إلّا إلى رأي واحد لتُحاصر بقول فصل. معطى أفقد فيلمه العمق الذي يُولد عادة من تعدّد التفاسير وكثرتها. كما أنه لم يخرج، كعادته، من الثقوب التي تحاصر أعماله، خاصة تلك الأخيرة، من خلال كليشيهات لم تعد لها أي قيمة معرفية وجمالية، لتوظيفها بشكل متحامل، ولم تخدم السيناريو والقصة في شيءٍ، بل فقط تُرضي أيديولوجية المخرج، وهذا حقّ مشروع له: أنْ يدافع عن أفكاره بالطريقة التي يراها مناسبةً، شرط ألّا يكون هذا على حساب سينمائيّة الفيلم وفنّيته. وهذه، في "الصفّ الأول"، غير مُبرّرة درامياً، تمنح شعوراً بأنّها مُقحمة ولا تُفيده جمالياً.
الانتقاص من جماليّته حاصلٌ أيضاً بإسرافه في الحشو: مشهد الطفل الصغير فيصل قدوري (أنيس عزوق)، الذي يرتدي تباناً (سروال قصير إلى ما فوق الركبة بقليل، يرتديه ملّاحون وسبّاحون ورياضيون)، ويسبح في البحر، ثم فجأة يرتدي قميصاً وقبعة دينية، ويبدأ بالصلاة. يفاجأ فيصل الطفل لاحقاً بسرقة هاتفه لحظة الصلاة، رغم وجود أفرادٍ عدّة من عائلته. هناك مشهد آخر، تقول سهيلة قدوري (هناء منصور) لصديقها ريان بودربالة (مهدي سعيدي)، بعد خلعها غطاء شعرها، إنّها تُفكّر في نزع الحجاب، فيردّ عليها بأنّ أخته حورية تُفكّر، هي أيضاً، في ذلك. بعد لحظات، تأمره بتقبيلها. في الكليشيهات الدينية نفسها، يُبلغ بشير، شيخ ملتح يرتدي قميصاً وقبعةً، ويحمل مسبحة، مختار بودربالة (قادر أفاك) بأنّ زوجته على علاقة بمغنٍّ، فتثور ثائرته، ويلحق بهما، وعندما يجدهما معاً، يتعامل معهما ببرودة لا تعكس حجم الحدث. أكثر من هذا، تُقنعه زوجته بأنْ لا علاقة بينهما، فيبقى المغنّي معهما، ويأكل من موائدهما بشكل عادي.
هناك مشاهد كثيرة غير مُسنَدة بعناصر العمل الفني، ولا مُبرّرة درامياً، بل محاطة فقط بحوارات شعبية وثرثرة غير مُجدية، محبوسة في أطرٍ غير مُشبعة جمالياً، فتوحي بأنّها مشاهد مسلسل أو "سيت كوم".
لـ"الصفّ الأول" صيغة كوميدية غير مُجدية، معرفياً وجمالياً. إنّه عمل لا يقود إلى شيء، وبلا لغة سينمائية يُمكنها إعطاؤه هوية فنية. غير مُترابط ومتكاثف في انسيابية مَشاهده وتراصها.
سبب هذا كلّه ضعف السيناريو، وغياب أيّ عمق فكري. فعلواش تصوّر أنّه يُمكن صنع فيلم جيّد انطلاقاً من الاعتماد على ممثلين من الصفّ الأول. وربما اعتقد أنّ هؤلاء يُمكنهم إنقاذ هشاشة السيناريو، والتغطية عليه. لكنّه أخطأ في حساباته هذه، رغم حضور ممثلين متمرّسين، كنبيل عسلي وفتيحة وراد وهشام مصباح.