الشكل بين ممثل وشخصية: تشابهٌ أم تقليد؟

الشكل بين ممثل وشخصية: تشابهٌ أم تقليد؟

04 ديسمبر 2020
كريستيان بايل في الـ"نائب" ديك تشيني: تناقض القبول بها (يوتيوب)
+ الخط -

مُشاهدةٌ متأخّرة لـ"نائب (Vice)"، المُنجز عام 2018، يُثير سؤالاً نوقش سابقاً بتواضع: أيَهُمّ كثيراً أنْ يُشبه ممثلٌ، بالشكل، شخصيةً حقيقية يؤدّيها سينمائياً؟ كريستيان بايل يؤدّي في فيلم آدم ماكاي هذا شخصية ديك تشيني، النائب السابق للرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن. شكل الممثل في الفيلم يتطابق، كثيراً، مع شكل السياسي الأميركي، المحنّك والمخادع. التصرّف والسلوك والنطق والحركات وبحّة الصوت والنظرات، مسائل متشابهة إلى حدّ التطابق.

لكنْ، أيكفي هذا؟ الإضافة حاصلةٌ. بايل ممثل محترف. اختباراتٌ سابقة له تعكس اشتغالاتٍ تسبق تأدية دور، وتؤكّد براعته في الفصل بين الشَبَه والتقليد. يحاول بلوغ مرتبة عليا من التشابه مع شخصيات حقيقية، أو مع أخرى مستلّة من الواقع. مستعدٌ دائماً لإنقاصِ وزنٍ أو لزيادته، كي تتطابق الشخصية السينمائية مع تلك الحقيقية أو الواقعية. في "نائب"، يُزيد وزنه وفقاً لتعليمات مُشرفين متخصّصين بالصحّة والتغذية. يتماهى بالشخصية الحقيقية إلى حدّ كبير، لكنّه قادر (إلى حدّ كبير) على ضبط جنوحه إليها، بتمكين أدوات تمثيله من إيجاد فرقٍ بين الممثل والشخصية السينمائية والشخص الحقيقي، لصالح الممثل وأدائه، غالباً.

رغم هذا، هل يُشفَع لكريستيان بايل براعته في تمتين الحدود بين فروع هذا المثلث؟ أداؤه شخصية ديك تشيني مُثير لتناقضٍ في تقبّلها. الحِرفية التمثيلية واضحة. الانغماس في الشخصية، شكلاً ونَفْساً وتفكيراً وسلوكاً، يمنح الصورة السينمائية صدقاً مطلوباً. الانغماس نفسه يكاد يُلغي الخيط الواهي بين تمثيلٍ، يتطابق مؤدّيه مع شكل الشخصية، وتقليد الممثل للشخصية. المبالغة حاصلةٌ أحياناً، فالإيغال في التشابه يُصبح نافراً في لقطاتٍ عدّة. هذا يصنع جفاءً بين مُشاهِد مهتمّ، وفيلمٍ يروي فصولاً من سيرةِ شخصيةٍ حقيقيةٍ، لأفعالها حضورٌ وتأثيرٌ في العالم.

الفرق ضئيل بين التماهي والتمثيل والتطابق والتقليد والمبالغة والشَبَه. لكنّ ضآلته تتحوّل أحياناً إلى هوّة، تُغيِّب براعة الممثل، فتقضي على جهدٍ مبذول لجعل الأداء صادقاً في نقل الشخصية الحقيقية، جسداً وروحاً وتفكيراً وسلوكاً، إلى فيلمٍ يبغي، من بين أمورٍ أخرى، تصوير عوالم مبطّنة وتفكيك مُخبّأ وكشف مستور في الشخصية تلك، وفي مهنتها وعلاقاتها وأحوالها ويومياتها وحياتها وأفعالها.

هذا يطرح سؤالاً آخر: ممثلون وممثلات عديدون يقولون إنّ شخصياتٍ واقعية، لا حقيقية، تدفعهم إلى تواصلٍ مع أناسٍ حقيقيين، لهم مع تلك الشخصيات روابط مختلفة. المعوّق، أو المُصاب بعاهة جسدية أو عقلية، أو المتشرّد، أو الطبيب، أو العامل، وغيرهم، أناسٌ يسعى سينمائيون وسينمائيات إليهم، لتصوير أفلامٍ يُراد منها التقاط نبض حياة، أو تأمّلَ مسائل وانفعالات، أو قراءةَ وقائع وتفاصيل.

 

موقف
التحديثات الحية

 

إلى أي مدى يُمكن لممثل أو ممثلة أنْ يستفيد من لقاء كهذا؟ ألنْ يؤثِّر لقاء كهذا على مفهوم التمثيل وتقنياته، وعلى حساسية الممثل/ الممثلة ووعيه ومعرفته وأحاسيسه واشتغالاته؟

لا إجابات حاسمة. لهذه التساؤلات قراءات مختلفة، ولمُشاهدين محترفين آراء وتفكير وتحليل تختلف كلّها، أحياناً، مع تلك التي يقول بها نقّاد ومتابعون ومتخصّصون. العاملون في صناعة الصورة، السينمائية والتلفزيونية، يجدون في هذا ملاذاً يقيهم خطأ الوقوع في التصنّع والتباهي، أو في تمثيلٍ عاديّ. يريدون الأفضل، فيُقيمون في/ مع الشخصية الحقيقية أو الواقعية وقتاً للتعرّف والفهم والتواصل، ولاختراق بعض المبطّن، إنْ يتمكّنوا من ذلك. بعضهم يتّكئ على حِرفية مهنيّة، فيرى في التواصل إضافةً، تُحصّن حِرفيتَه من كلّ سلبيّ في تأثيرات التواصل عليه. رغم هذا، تبقى الإجابات غير محسومة.

عربياً، يختلف الأمر. نادرون هم المتحمّسون لفهم طبيعة الشخصية، والتعرّف عليها فعلياً. النجومية غالبةٌ على "الأنا" فيهم، كما على تمثيلٍ يفقد بعض حِرفيته ومهنيته وجمالياته. نادرون هم التوّاقون إلى اشتغال على الذات، شكلاً وتفكيراً وأحاسيس، في استعداداتهم السابقة على التمثيل. الأكثر نُدرة بين النادرين هم أولئك المتمكّنون من فصل التماهي والتشابه عن التقليد والمبالغة. أحمد زكي نموذج نادرٌ. اشتغالاته على شخصيات معروفة (طه حسين وجمال عبد الناصر وأنور السادات) درسٌ (متفاوت الجودة لكنّه مُهم للغاية) في تمثيل شخصيات حقيقية (له أدوارٌ أخرى يُقدِّم فيها شخصيات واقعية)، رغم بلوغه، أحياناً قليلة، حدّ المبالغة في تقديم شخصية ما. أما التساؤل عن مدى "خروج" النص السينمائيّ على الرواية الرسمية لهذه الشخصية الحقيقية أو تلك، عربياً، فيحتاج إلى نقاشٍ آخر، وإنْ يكن مطروحاً سابقاً، والإجابات عليه شبه محسومة، فالخروج على الرواية الرسمية العربية ممنوعٌ، والتحايل وحده كفيلٌ بتمرير المُراد، أحياناً.

إنْ يكن التشابه، شكلاً على الأقلّ، مطلوباً في أداء ممثلٍ لشخصية حقيقية أو واقعية، فما العمل عندما تكون تلك الشخصية الحقيقية منتمية إلى حقبات تاريخية، لا صُوَر فيها ولا رسومات ولا ما يدلّ على شكلٍ واضح لها؟ هذا يُحيل إلى كولن فارِل في "الإسكندر" (2005) لأوليفر ستون مثلاً. المُشاهدة كافية لتبيان الخيط الفاصل بين براعة ممثل وتوقٍ سينمائيّ إلى التطابق مع الشخصية الحقيقية، عبر أداء بارع، يكون (الأداء) بديلاً أساسيّاً عن التشابه.

التساؤلات مطروحة. الإجابات أيضاً. لكنّ الحسم صعبٌ، إنْ لم يكن مستحيلاً.

المساهمون