الشرطة الفرنسية والعنف: ماذا لو مُنعت الكاميرا؟

الشرطة الفرنسية والعنف: ماذا لو مُنعت الكاميرا؟

28 نوفمبر 2020
يطالب متظاهرون باستقالة وزير الداخلية دارمانان (جان فرانسوا مونييه/فرانس برس)
+ الخط -

"زنجي قذر"... يوجه عناصر دورية للشرطة الفرنسية كلامهم إلى ميشيل زيكلر، وهو منتج موسيقي وجد نفسه بين أيدي أربعة منهم يضربونه وينهالون عليه بالشتائم داخل الاستديو الخاص به في الدائرة الباريسية الـ17.

أكثر من 15 دقيقة من الضرب والإهانة سجّلتها كاميرا مراقبة موضوعة على مدخل الاستديو الخاص بزيكلر، قبل أن ينتبه لها أحد العناصر، فيقول: "لقد صورتنا. توقفوا". لكن في تلك اللحظة كانت الدماء تغطي وجه المواطن الفرنسي من أصول أفريقية، علماً أن معظم ضحايا عنف الشرطة هم من الفرنسيين السود.

وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها مقطع مصور لعنف الشرطة ضد مدنيين في فرنسا وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا المقطع الذي كشف عنه تحقيق أجراه موقع "لوبسايدر" أحدث هزة سياسية، لوضوحه وعدم وجود أي حجة تمكن الشرطة من تزوير الوقائع.

والشواهد كثيرة على حدوث مثل هذا التزوير، كما حدث في قضية آداما تراوري وسدريك شوفيا الذي أدت مقاطع فيديو نشرها مواطنون وثقّوا الحادثة إلى إعادة فتح قضية مقتله.

وتأتي الحادثة الجديدة في أجواء مشحونة ضد الشرطة، ساهم "قانون الأمن الشامل" الذي قدّمه وزير الداخلية جيرالد دارمانان وكتلة الأكثرية التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون في البرلمان "الجمهورية إلى الأمام" بزيادة تعقيدها.

وتنص "المادة 24" من القانون على حظر تصوير أو بث صور للشرطة أثناء قيامهم بعمليات على الأرض، وهنا يبرز السؤال: لولا هذه الصور من كان سيعلم؟

كما أن صدور مواقف عن شخصيات مشهورة مثل فنانين تعاملوا مع الضحية، وأبرز نجوم كرة القدم الفرنسية مثل أنطوان غريزمان وكيليان مبابي، صعّب على السلطة التنفيذية تبرير هذا العنف المفرط في الحادثة الجديدة.

ولقسوة الصور وردود الفعل الكبيرة عليها التي وصلت إلى دعوات لاستقالة وزير الداخلية وقائد شرطة باريس ديدييه لالما، حاول الرئيس الفرنسي تدارك الموقف، في بيان مطول صدر عن الإليزيه مساء الجمعة، قال فيه إن "الصور التي رأيناها جميعاً للاعتداء على ميشيل زيكلر غير مقبولة. إنها تشعرنا بالعار... يجب ألا تسمح فرنسا أبداً بتغذية الكراهية أو العنصرية".

حالة الغضب التي عمّت فرنسا بعد نشر تحقيق "لوبسايدر"، شجّعت أحد جيران الضحية على نشر مقطع جديد للحادثة التقطه من شرفة منزله، يظهر عناصر الشرطة وقد انضمت إليهم دورية جديدة، يستمرون في ضرب الضحية بعد إخراجه من الاستديو. وقال في تصريحات لوسائل إعلام إنه في البداية كان يخشى أن تطاوله المساءلة من الشرطة إذا بث المقطع الذي وثق فيه الاعتداء على زيكلر.

ووضع العناصر الأربعة الذين أوقفوا عن العمل، بحسب ما أعلن دارمانان، الخميس، قيد الحجز الاحتياطي في المقر الرئيسي للمفتشية العامة للشرطة الوطنية، فيما فتح تحقيق بتهمة "عنف ممارس من شخص يتمتع بسلطة عامة بطابع عنصري وتزوير وثائق رسمية"، بعدما زوروا محضر الحادثة بالقول إن الضحية قاومهم ونفذ عصياناً لأوامرهم.

وخلال الأسبوعين الماضيين، شهدت فرنسا حوادث عنف كثيرة من الشرطة، بدأت ضد صحافيين وناشطين حقوقيين احتجوا على نقاش البرلمان لـ"قانون الأمن الشامل" في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، ثم استمرت بعدها بيومين ضد نواب في البرلمان ومسؤولين منتخبين في ساحة الجمهورية اعتصموا مع لاجئين ومهاجرين للمطالبة بتأمين مسكن لهم، حيث حطمت الشرطة الخيم وفضت الاعتصام بعنف، ما دفع صحيفة "ليبراسيون" إلى إبراز صورة شرطي يدوس على أحد اللاجئين على غلافها، وكتبت عليها: "تحطيم الجمهورية".

وتتخذ وسائل الإعلام الفرنسية، على تعدد مشاربها، موقفاً موحداً ونادراً ضد عنف الشرطة منذ أسابيع، ازداد حدة مع إدخال دارمانان لـ"المادة 24" في "قانون الأمن الشامل" التي تعتبرها وسائل الإعلام ونقابات الصحافيين اعتداء على حرية التعبير وحرية الصحافة، لدرحة أنها أعلنت سحب كل صحافييها الميدانيين في بيان مشترك، قالت فيه إنها تخشى عليهم من اعتداء قوات إنفاذ القانون عليهم بعد تبني البرلمان المادة المثيرة للجدل.

وتعتبر "ليبراسيون" و"لوموند" و"ميديا بارت"، بالإضافة إلى نقابات الصحافيين، رأس الحربة في "حرب الصور" الدائرة حالياً، إذ عنونت "لوموند" صفحتها الأولى لعدد يوم الجمعة "عنف الشرطة: السلطة التنفيذية مسؤولة"، أما "ليبراسيون" فعنونت على صورة ميشيل زيكلر الملطخ بالدماء: "عنف الشرطة: الغثيان"، فيما وصف موقع "ميديا بارت" دارمانان بـ"الوزير الفاقد للشرف"، وقال إنه منذ وصوله إلى منصبه "لم يتوقف أبداً عن تملق أكثر أطراف الشرطة تطرفاً. والنتيجة هي اضطراب عام وسط تزايد عنف الشرطة. حان الوقت لإقالة وزير الداخلية المشعل للحرائق".

يشار إلى أن المعركة القائمة بين السلطة التنفيذية من جهة والمناهضين لعنف الشرطة ونقابات الصحافيي من جهة ثانية وصلت إلى القضاء، إذ أصدرت المحكمة الإدارية في باريس، في وقت متأخر من ليل الجمعة، قراراً بمنح ترخيص تظاهرات مقررة في معظم المدن الفرنسية بعد ظهر السبت احتجاجاً على عنف الشرطة وللمطالبة بإلغاء "المادة 24" من "قانون الأمن الشامل" واستقالة وزير الداخلية وقائد شرطة باريس، دعت إليها نقابات الصحافيين وسائل إعلام وجمعيات حقوقية.

هذا القرار اللافت جاء بعد إصدار قائد شرطة باريس أمراً بحظر كل "التظاهرات والتجمعات المخطط إقامتها يوم السبت"، وهي من المرات القليلة التي تتدخل فيها المحكمة الإدارية في مثل هذا النوع من النزاعات وتكسر أمراً صادراً عن قائد الشرطة، الأمر الذي يشير إلى عمق الانقسام حول مسألة عنف الشرطة في فرنسا.

المساهمون