استمع إلى الملخص
- تميز بتقديم المديح النبوي، السير الشعبية، والغناء الخفيف، ونجح في تسويقها عبر المسارح والإذاعة والتلفزيون، متميزاً بهويته البصرية الفريدة.
- حقق شهرة دولية وقدم عروضاً في مسارح عالمية، وشارك في أفلام سينمائية، لكنه عانى من تدهور صحي ومالي قبل وفاته في 2004، تاركاً إرثاً فنياً غنياً.
ربما كان الإنجاز الأكبر للمغني المصري متقال قناوي (1929 - 2004) أنه استطاع أن ينقل الغناء الصعيدي الصرف إلى المستمعين في القاهرة والوجه البحري، في بلد تمتعت عاصمته دائماً بسطوة وهيمنة فنية، جعلت من الغناء القاهري الدلتاوي غناءً مركزياً لمصر كلها، لا يُنسب إلى جهة، ولا يُحال إلى لهجة، ولا يوصف إلا بالقوالب الشكلية المعتادة، ويكاد يشغل كل المساحة التي تخصصها الإذاعة للغناء، وكذلك التلفزيون، باعتبار أن هذا الغناء أصل وأساس، وغيره استثناء نادر.
لكن حين غزا الريس متقال مسارح القاهرة، واستمعت إليه الجماهير وسط فرق الفنون الشعبية، نجح في ثقب الجدار الفولاذي، وغنت مصر كلها معه "يا حلوة يا شايلة البلاص.. من فضلك كلميني.. ده أنا قلبي يحب بإخلاص.. زي ما أحبك حبيني.. زي ما أودك وديني".
في أواخر عقد العشرينيات من القرن الماضي وُلد متقال قناوي في مدينة الأقصر، ومبكراً تعلم من والده عزف آلة الربابة، تلك الآلة الوترية البسيطة التي عبرت عن الوجدان الصعيدي منذ زمن سحيق، بعد أن أتقن العزف، صار عضواً في فرقة أبيه، لكن تلك العضوية لم تطل، إذ قرر الفتى الصاعد أن يستقل بنفسه وأن يشكّل فرقته الخاصة التي لم تكن إلا مجموعة من أقاربه.
بدأ الريس متقال نشاطه الفني المستقل في مدينة الأقصر والقرى القريبة منها. كان يحيي أفراح الجيران والأقارب، ولم تخرج شهرته عن محافظات جنوب الصعيد، التي اشتهر فيها بسبب عزفه المكين على الربابة، وأيضاً بسبب خبرته الكبيرة في أداء الموال الصعيدي، إلى أن لعبت المقادير معه دورها الكبير، وهيأت الظروف لقاءه بمجموعة من المثقفين المهتمين بالفنون الشعبية خلال زيارتهم إلى مدينة الأقصر، منتصف ستينيات القرن الماضي، فدعوه دعوةً ملحة إلى زيارة القاهرة، بل إلى الانتقال الدائم إليها والاستقرار فيها لتتاح له فرصة تقديم فنه على المسارح الكبيرة، وبالاشتراك مع أعضاء الفرق الشعبية النشطة في تلك الفترة.
يعرف صعيد مصر ثلاثة أنواع رئيسة من الغناء؛ أولها، المديح، أي إنشاد قصائد المديح النبوي، ويطلق أهل الصعيد على من يغني هذا اللون لقب المداح. وبالرغم من أن المديح يعد لوناً من ألوان الإنشاد الديني، لكن طابعه الصعيدي، المتمثل في ألحانه وطريقة لفظ كلماته، ابتعد برموزه دائماً عن ميكروفون الإذاعة؛ فقصائده المختارة، التي يغلب عليها الغزل، واعتياد المنشدين على المصاحبة الموسيقية، جعل هذا اللون من الإنشاد غير صالح لابتهالات الفجر، ولا الاحتفالات الدينية التي تنقلها الإذاعة أو التلفزيون.
ومن أشهر أعلام المديح الصعيدي أحمد التوني، وأحمد برين، وياسين التهامي. النوع الثاني، هو السير الشعبية، وفي مقدمتها سيرة بني هلال، وأشهر مغنيها جابر أبو حسين الذي تعاون كثيراً مع الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي بترشيح الريس متقال. وأيضاً لم يكن هذا اللون يحظى بتقديم منتظم في وسائل الإعلام، وإن عرفه بعض الهواة عن طريق شرائط الكاسيت. وأما النوع لثالث، فهو ذلك الغناء العادي الخفيف متعدد الموضوعات، ولا ريب أن الريس متقال كان أكبر رواد هذا اللون، ونجح في تسويقه بين جماهير المسارح في القاهرة، والأهم أنه نجح في تمريره عبر أثير الإذاعة وشاشة التليفزيون، ومن خلالهما إلى المستمعين والمشاهدين في البيوت.
إذن، مثّل الانتقال إلى القاهرة محطة محورية في مسيرة متقال قناوي، ولا سيما مع التحاقه بالفرقة القومية للفنون الشعبية عام 1965. ومع اتساع شعبيته، بدأت شركات التسجيل في إصدار أغانيه على أسطوانات ثم على شرائط الكاسيت. كان الرجل أمياً، لا يقرأ ولا يكتب، لكن فطرته الفنية مكنته من تأليف معظم أعماله، ومن تلحينها أيضاً.
وعندما كان يقف على المسرح، كان يقدم عملاً من تأليفه وتلحينه وغنائه وعزفه، بمصاحبة فرقة أشرف هو على تحفيظها وتدريبها، وقد كانت هيئته جزءاً من شخصيته، ويمكن أن نقول إنه نجح في تشكيل هوية بصرية له، من خلال الجلباب الصعيدي، والعمامة المميزة، وقبل كل هذا بشاربه الطويل العريض اللافت.
ومع الزمن، راكم الريس متقال عدداً كبيراً من الأغاني التي علقت بأذهان الجماهير المصرية والعربية، وكانت دائماً من أسباب بهجتهم، وفي مقدمتها: "الفراولة بتاع الفراولة"، و"يا حلوة يا شايلة البلاص"، و"البت بيضا"، و"بص على الحلاوة"، و"يا جريد النخل العالي"، و"شبكني الهوى"، و"يا ليل يا أبو الليالي"، و"ميل واسقيني"، و"ضيعت مالي"، و"البت قالت لأبوها"، و"يا جريد النخل العالي"، و"افرحي يا عروسة"، و"يا نور النبي"، و"القلب يهوى واحد"، وغير ذلك كثير من المواويل وتسجيلات السيرة الشعبية. ولا تنسى الجماهير غناءه لمسقط رأسه: "الأقصر يا بلدنا.. فيكي توت عنخ آمون.. أرض بونا وجدودنا.. اسمك لن يهون".
وبهذه الأصالة التي يفيض بها متقال في غنائه وفي هيئته، بدأت رحلة الرجل إلى مسارح العالم. استمع الفرنسيون إلى "البت بيضا" في أوبرا باريس، ودهش الهولنديون من "بص على الحلاوة" على مسارح أمستردام. وفي العاصمة الألمانية برلين، ألف أشهر أغنياته "الفراولة" ولحنها وقدمها "من غير تجهيز ولا ترتيب" وفق تعبيره. وكانت أطول رحلاته الفنية إلى الولايات المتحدة الأميركية، عندما بقي فيها لأكثر من عام، وأحيا حفلات متعددة في سبع ولايات.
في كل هذه الزيارات الخارجية، كان متقال قناوي محل اهتمام من الصحافة والإعلام والجماهير التي تبحث عن فن غارق في المحلية، ضارب بجذوره هناك. في الصعيد، وفي مدينة الأقصر، التي أحيا فيها الريّس حفلاً تاريخياً خلال عقد السبعينيات بحضور خمسة آلاف سائح، كانوا جميعاً يتمايلون طرباً وانسجاماً مع غناء الرجل وعزفه على الربابة.
اشترك الريس متقال بالغناء في عدد محدود من الأفلام السينمائية، كان أولها فيلم "الشك يا حبيبي" عام 1979 من إخراج هنري بركات وبطولة شادية ومحمود ياسين، وأيضاً "التوت والنبوت" عام 1986 من إخراج نيازي مصطفى وبطولة عزت العلايلي وتيسير فهمي، و"أيام الرعب" عام 1988 من إخراج سعيد مرزوق، وبطولة محمود ياسين. وكانت آخر مشاركاته السينمائية عام 2003 في فيلم المشخصاتي، من إخراج تامر عبد المنعم. وفي كل هذه الأفلام، كان ظهور متقال قناوي يمثل إضافة مهمة للعمل السينمائي، وكانت أغانيه من أهم وسائل جذب الجمهور إلى الفيلم.
عاش متقال قناوي حياته مرفهاً، وكرر تجارب الزواج مرات عدة، وأنجب 25 ابناً وابنة، وقد اشتهر ابنه حجازي، الذي حاول أن يسير على طريقة والده، أن يعيد تقديم أغانيه، لكنه لم يحقق الجماهيرية الواسعة التي حققها أبوه.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، تدهورت أحوال الريس متقال، وعاش في بيت متهالك، وأنفق كل مدخراته على العلاج والدواء.. في 17 يونيو/حزيران من عام 2004، رحل الريس متقال.