استمع إلى الملخص
- ترى دار كريستيز أن المزاد يمثل تحولاً في تاريخ الفن، حيث يتيح الذكاء الاصطناعي آفاقاً جديدة للإبداع، ويعتبره بعض الفنانين أداة جديدة مثل الفرشاة أو الكاميرا.
- يعكس النقاش جدلية أوسع حول علاقة الإبداع البشري بالتكنولوجيا، مع اقتراح حلول مثل استخدام بيانات مرخصة وتعويض الفنانين.
أثار المزاد الذي نظمته دار كريستيز (Christie's) هذا الشهر للأعمال الفنية المولدة بتقنيات الذكاء الاصطناعي ضجةً كبيرة وسجالاً لم ينته حتى بعد اختتامه في الخامس من مارس/آذار الحالي، بل ما زال الجدل حوله يتصاعد. فمنذ الإعلان عن المزاد في فبراير/شباط الماضي، وقّع أكثر من ستة آلاف فنان على رسالة مفتوحة تطالب بإلغائه، في إشارة إلى حالة التوجّس من تنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المجال الفني. وبينما يرى بعضهم أن الذكاء الاصطناعي يمثل امتداداً طبيعياً لتطور الفن، يعتبره آخرون تهديداً مباشراً للإبداع البشري. في هذا السياق، تُطرح تساؤلات مهمّة في الأوساط الفنية العالمية: هل نحن بالفعل أمام تحول فني جديد؟ أم أننا نواجه أزمة أخلاقية تستدعي التوقف والتأمل؟ ما الذي يخيف الفنانين من هذه الثورة التكنولوجية؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعايش مع الإبداع البشري من دون أن يطمسه، كما يدّعي المدافعون عنه؟
المعارضة الشديدة لهذا المزاد جاءت من عدد كبير من الفنانين، خصوصاً العاملين في المجالات التجارية، مثل التصميم والرسم الرقمي والتوضيحي. يرى هؤلاء أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يعتمد على بيانات مأخوذة من أعمالهم من دون إذن أو تعويض، ما يمثّل انتهاكاً صارخاً لحقوقهم الفكرية. أحد المنظمين الرئيسيين للرسالة المفتوحة، الفنان ريد ساوثن، أشار إلى أن العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تُستخدم قد دُرّبت على أعمال فنية من دون موافقة أصحابها.
القضية هنا لا تتوقف عند الملكية الفكرية فقط، بل يمتد النقاش إلى مستقبل الفن نفسه وطبيعة الممارسة الإبداعية، والأهم من ذلك تهديد الذكاء الاصطناعي لعمل هؤلاء الفنانين ومستقبلهم المهني. بعض الفنانين أفادوا بأنهم فقدوا فرص عمل، وتراجعت مداخيلهم بسبب الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في إنتاج التصاميم والمحتوى البصري بأسعار أقل بكثير من كلفة العمل البشري.
على الجانب الآخر، ترى دار كريستيز أن المزاد يمثّل لحظة تحول في تاريخ الفن، إذ تتيح التكنولوجيا آفاقاً جديدة للإبداع البشري. في هذا السياق، أكدت مديرة الفن الرقمي في "كريستيز"، نيكول سيلز غايلز (Nicole Sales Giles)، أن الذكاء الاصطناعي ليس سوى أداة جديدة في يد الفنان، تماماً كما كانت الفرشاة أو الكاميرا في عصور سابقة. كما أن بعض الفنانين الذين شاركوا في المزاد دافعوا عن استخدامهم للذكاء الاصطناعي، مؤكدين أنهم درّبوا النماذج معتمدين بياناتهم الخاصة، ولم يلجؤوا إلى استخدام أعمال أنتجها فنانون آخرون. وأوضح أحد الفنانين المشاركين في المزاد، أن التقنية التي استعملها تعتمد على صور فوتوغرافية شخصية تُعالَج عبر خوارزميات متقدمة، ما يجعل الإبداع جزءاً لا يتجزّأ من العمل.
النقاش حول الذكاء الاصطناعي في الفن لا يقتصر على هذا المزاد وحده، بل يعكس جدلية أوسع تتعلق بعلاقة الإبداع البشري بالتكنولوجيا. فالفن لطالما كان مساحةً للتفاعل بين الأدوات الجديدة والتقنيات المبتكرة، بدءاً من التصوير الفوتوغرافي وصولاً إلى الفن الرقمي. من جهة أخرى، يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي أنه امتداد لعملية التطور الفني، فيمكن أن يساعد الفنانين على استكشاف أساليب جديدة وتقديم رؤى مختلفة. لكن، على الجانب الآخر، يرى منتقدو هذه التكنولوجيا أنها ليست مجرد أداة، بل وسيلة لسلب الحقوق الفكرية؛ فحتى إن كان بعض الفنانين يستخدمون بياناتهم الخاصة، فإن العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي الأساسية قد دُرّبت على كميات هائلة من البيانات المتاحة عبر الإنترنت، وهذه تشمل أعمالاً فنية محمية.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيظل جزءاً من مشهد الفن الحديث، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن التوفيق بين الإبداع البشري والتكنولوجيا بطريقة عادلة وأخلاقية؟ في هذا السياق، يطرح المختصون عدداً من الحلول، كإنشاء نماذج ذكاء اصطناعي تعتمد على بيانات مرخصة، وتعويض الفنانين الذين تُستخدم أعمالهم في التدريب. وظهرت تطبيقات عدة تتيح للفنانين معرفة ما إذا كانت أعمالهم قد استُخدمت في تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي. لكن، حتى مع هذه الجهود والمحاولات، يبدو أن الصراع لن ينتهي قريباً. فبينما يرى بعضهم أن مقاومة الذكاء الاصطناعي في الفن أشبه بمعارضة التصوير الفوتوغرافي عند ظهوره، يرى آخرون أن القضية هنا ليست في الأداة، بل في الطريقة التي يتم بها استخدامها.
في خضم هذه النقاشات، يبرز تساؤل آخر: هل الذكاء الاصطناعي يمثّل عدواً للفنان، أم أنه أداة يمكن تسخيرها بطرق مبتكرة؟ علينا أن نعترف كذلك بأن هناك مشكلات حقيقية تحتاج إلى حلول، وأهمها ضمان حصول الفنانين على حقهم إذا استخدمت أعمالهم في تدريب الذكاء الاصطناعي. في ظل هذه الضمانات، يصبح التعامل مع الذكاء الاصطناعي يقرضها التطور، وبدلاً من رفض الذكاء الاصطناعي جُملةً وتفصيلاً، يمكن العمل على تطوير قوانين جديدة تضمن الاستخدام العادل، وتعزّز من حقوق الفنانين. فكما استفاد الفنانون من تقنيات مثل التصوير الفوتوغرافي والرسوم الرقمية، يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة إبداعية جديدة، من شأنها أن تفتح أمام الفنانين آفاقاً غير مسبوقة.