Skip to main content
الجاز الشرقي... ناي وعود ممزوجان بـ"بوتقة"
علي موره لي
زياد الرحباني في القاهرة عام 2018 (خالد دسوقي/فرانس برس)

في مقالة حول إرث الموسيقي اللبناني زياد الرحباني بعنوان "جاز الرحباني الشرقي مُتجذّرٌ في الصراع اللبناني، مزدرٍ من قبل التقليديين العرب" نشرتها صحيفة "لوس أنجليس تايمز" في إبريل/نيسان 1988، يقول الرحباني إنّ الجاز الشرقي "يشبه هامبرغر بنكهة الفلافل".
كما هي العادة عند متابعة أحاديث صاحب "فيلم أميركي طويل"، فإنّه يصعب تحديد مقصد كلامه: هل كان يسخر من لون موسيقي كان له اليد العربية الطولى في انتشاره وترسيخه؟ أم أنه كان يهزأ ممّن يدأبون بشكل مستمرّ على استنباط التوصيفات والتصنيفات واختراع التسميات والتعريفات حيال مُنتج من المنتجات الفنية سمته الهجونة؟

يرى الرحباني أن أوجه التلاقي الأساسية بين كل من الموسيقى العربية والجاز تكمن أولاً بالارتجال. فكما تطرح فرقة الجاز لحناً من الألحان ليجري تداوله بين أعضائها بآلاتهم المختلفة فيقوم كل منهم بالارتجال عليه، أي عزفه بطرق متنوعة ومبتكرة لم تُحضّر مسبقاً أو تدوّن على ورق، كذلك هي الموسيقى الشرقية إذ تقوم على الارتجال بشكل كبير سواءً من خلال "التقاسيم" التي يؤديها العازفون أو "التفريد" الذي يقوم به المطرب أو المطربة.  

ثانياً، الأمزجة التي أنتجت لون الجاز ويُعيد بدوره إنتاجها بحكم تاريخه الأفرو- أميركي، إنما هي بمجملها سوداوية كئيبة تنحدر من البلوز Blues (والتسمية بالإنكليزية تُشير إلى الحزن). ينسجم ذلك مع الميلانكولية الشرقية التي بقيت صبغة الأغنية العربية العامة، وإن بكحل الحب وحرقات الشوق والتوق ومآسي الافتراق.    

في نظرةٍ ماكروية (macro) إلى الجاز الشرقي وقد تصدره زياد الرحباني ضمن مشهد بيروت الكوزموبوليتية زمان السبعينيات والثمانينيات، وهي تحترق بنار الحرب الأهلية، يأتي كاتب المقال حسن مروة، بوصف "البوتقة" Melting Pot مشيراً إلى السياق الثقافي الذي دفع بهذا اللون الفني إلى التبلور؛ إنه الهوس القديم الجديد بفكرة تلاقي الشرق والغرب، بدلاً من تصارعهما، أملاً في صهرهما في بوتقة، موسيقية هذه المرة.
صفة البوتقة رافقت الجاز منذ النشأة والبداية. مدينة نيو أورلينز في ولاية لويزيانا الأميركية، مسقط رأسه كما حدده المؤرخون، كانت توصف بـ"بوتقة" تنوعٍ ثقافي وتعددية عرقية، منذ أن شُيّدت من قبل المستوطنين الفرنسيين وحُكمت من الإسبان لفترة من الزمان. إلى أن أصبحت ضمن سيادة الولايات المتحدة الأميركية، بعدما  قام نابوليون ببيعها إلى توماس جيفرسون عام 1803.

برعاية المستوطنين وفي حمى المستعمرين، سُمِح للعبيد الأفارقة بأن يجتمعوا أيام الأحد في مكان كان يدعى "ساحة الكونغو" ما لبث أن تحول إلى ميدان تلاقح للثقافات بألوانها وأشكالها. من أفريقية إلى أميركية أصلية بالإضافة إلى فلكلور كل من المستوطن والمستعمر. فكانت تُشاهد دبكات الهنود الحمر الحماسية، فيما تُسمع أناشيد العبيد السوداوية، ترافقها الوتريات والنفخيات الأوروبية. 

تلك الفسحة التاريخية الاستثنائية من الحرية النسبية، أتاحت لأصوات متمايزة ومتباينة أن تنصهر في بوتقة صار اسمها الجاز. من هنا، يأتي اللون عنواناً للتعدد والتنوع؛ لحناً مصاحباً لقصة تكوين الولايات المتحدة الأميركية، بلداً أقامه وأقام به مهاجرون، وإيقاعاً لحركة مجتمعٍ هجين ظلت تنشط فيه مظاهر التآلف بقدر ما تحتدم بداخله مكامن التناقض والتضاد.     

إلّا أنّ الجاز في المآل لم يبق مجرد بوتقة صهر ثقافي داخل الولايات المتحدة الأميركية، بل صار بوتقة أميركية لصهر مختلف ثقافات العالم، به وببعضها البعض. في أميركا الجنوبية، صهر الجاز الموسيقى الأوروبية بالإيقاعات اللاتينية فظهر اللاتين - جاز. في إسبانيا، كان لأسطورة الغيتار باكو دي لوتشيا Paco de Lucía 1947-2014 السبق في استدراج لون الفلامنكو التقليدي إلى البوتقة الأميركية. 

والعالم العربي لم يكن استثناء. فقبل زياد الرحباني وفي مدينة كوزموبوليتية أخرى وضّاءة، هي العاصمة المصرية القاهرة، أسس الموسيقي يحيى خليل "رباعي جاز القاهرة". كما عُرف عن أسماء لامعة في الموسيقى العربية، أن استمعوا وافتتنوا وتأثروا بالجاز، كما تحدث محمد عبد الوهاب (1902-1991) خلال جلسة تلفزيونية أستضافته خلالها الإعلامية المصرية ليلى رستم في ستينيات القرن الماضي.

المسألة تبقى ليس ما تصهره البوتقة وإنما كيف. فالمكونات، سواء كانت شرقية أو غربية، قد تظل محض عينات ثقافية تخدم منتجاً موسيقياً سياحياً ولا تخلق بالضرورة مُخرجاً موسيقياً إبداعياً. من هنا يبدو الجاز أقرب إلى سوق سهلة الولوج لأي موسيقي من الشرق لا يمانع في طرح نفسه بضاعةً غرائبيةً (إيكزوتية) ضمن مسمى الجاز بوصفه بوتقةً طوباويةً صنعها غرب لا يمانع بدوره بل يرحب بمظاهر الإنفتاح على الشعوب، ويتبجح بإستيعابه العناصر الغريبة والنائية.    

وحدها الطاقة الإبداعية، والعمق الفكري والوجداني، إضافةً إلى الحساسية الثقافية ناهيك عن الدربة والجودة، التي إن توفّرت مجتمعة، فلسوف تحوّل الجاز من بوتقة تصهر المواد الأولية إلى مختبرٍ يُنتج الأفكار الأصلية والثورية قبل الألحان الجذابة والإيقاعات الحيوية. 

بمثل تلك المقومات، استطاع عمالقة كبار كثيلونيوس مونك (1917-1982) وجون كولترين (1926-1967)، من تجاوز النطاق الترفيهي الضيق الذي قُدم الجاز من خلاله في ما مضى، ليُعاد إنتاجه فيغدو العلامة الفنية الأميركية الأكثر أصالة وعالمية. 

ليس بتقديم ذواتهم وموسيقاهم ثقافة أفرو - أميركية محضة، وإنما بسبر وتسخير ما توصّلت إليه المعارف الموسيقية. من سلالم وإيقاعات مُركبة، إلى سلاسل هارمونية تعتمد نماذج تنافر وانسجام معقدة، تحاكي قواعد علمية وآراء فلسفية بقدر ما تعكس حالات وأمزجة وتستجيب لمشاعر وأحاسيس الإنسان أينما كان في الزمان والمكان.  

فالذات المبدعة هي البوتقة القادرة على خلق فنٍ حقيقي يتجاوز الأسواق والأصناف وصفحات الإنترنت ومنصّات السوشال ميديا، ويعبر جميع الأطباق والنكهات نحو المستقبل. هكذا يكون الجاز بوتقةً، ليس لصهر الهويات المحلية والعينات الثقافية، بل لتفجير الهوية الفردية؛ بوتقة تُذيب النحن والآخرين في الأنا الحرة الخلاقة، الحاضرة بوعي في سيرورة التاريخ.