التلاوات والتواشيح... إحداثية التكنولوجيا المفصلية

01 ابريل 2025   |  آخر تحديث: 02 أبريل 2025 - 08:47 (توقيت القدس)
من إحياء المولد النبوي في القاهرة، 2015 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في عام 1948، استعاد طه الفشني صوته بشكل مفاجئ أثناء زيارته لقبر النبي محمد بعد فقدانه القدرة على التلاوة والإنشاد بسبب مرض غامض، وعاد إلى مصر ليعلن أن شفاءه كان بفضل معجزة نبوية، تاركاً أرشيفاً صوتياً غنياً بعد وفاته في 1971.

- وائل الفشني، حفيد طه، واصل الإرث الفني للعائلة بدمج الطابع الديني والدنيوي في أعماله، مستفيداً من المنصات الرقمية لترويجها، مما يعكس مرونة فنية تواكب العصر.

- شهدت فترة طه الفشني تأصيل التوشيح المصري، بينما يواجه وائل تحديات العصر الرقمي، مما يتطلب تنويع الطرز الغنائية والاعتماد على الذات في الترويج والإنتاج.

سنة 1948 أصيب طه الفشني، ابن مدينة الفشن بمحافظة بني سويف، شمالي مصر، والأبرز بين أسرة شيوخٍ من قرّاء ومنشدين، بمرض غامض أدى إلى اعتلال في الحنجرة، فتوقّف عن تلاوة القرآن وأداء التواشيح والابتهالات في الجوامع وحلقات الذكر حول القاهرة وعبر أثير إذاعتها، حيث اعتاد المصريون الاستماع إليه، ولا سيما خلال المساءات شهرَ رمضان قُبيلَ أذان المغرب فحلول موعد الإفطار. 

تحت وطأة إحساسه بالعجز وفي غمرة الكآبة الشديدة، نوى السفر إلى المملكة العربية السعودية قاصداً الحرم المكي لأداء فريضة الحج، وبينما كان يزور قبر النبي محمد، رُدَّت له فجأة القدرة على الكلام، فما إن رجع إلى مصر حتى أخذ يردّد مهلّلاً: "الحبيب المصطفى أعاد لي صوتي"، معتبراً أن شفاءه تمّ بمعجزةٍ نبوية.

عُرفت عن الفشني غزارة الإنتاج. وبعد رحيله سنة 1971، خلّف أرشيفاً صوتيّاً هائلاً من تسجيلات لتلاوات وتواشيح، منها ما سُجِّل حيّاً أو من قلب استوديوهات الإذاعة، تُعتبر اليوم من نفائس الإنشاد الإسلامي المصري ولا تزال أصداؤها تتردد عبر أثيرها.

اسم الأسرة يحمله اليوم وائل الفشني (40 عاماً) حفيدُ أحد شيوخها، عازفُ إيقاع ومغنٍّ، قضّى طفولته الأولى في الرياض التابعة للكنيسة القبطية، تربّى بعدها في مدارس الأزهر الشريف، ثم تدرّب في معهد الموسيقى العربية. رُفِع له مؤخراً على "يوتيوب"، تزامناً مع حلول شهر رمضان، مقطعا فيديو، واحد بعنوان "ما بك قلبي" والآخر "بحكمك رضيت" من كلمات أحمد تبارك وألحان "غريب"، وكلاهُما من بين الأسماء المعروفة في سوق الأغنية الجماهيريّة. 

كلٌّ من الفنشي السلف والخلف يشتركان في تموضعهما عند إحداثية تكنولوجية مفصلية؛ فالأول رائدُ جيلٍ، اتّكأ في حضوره وسعة انتشاره على البث الإذاعي، بعدما أدّى إنشاء راديو القاهرة سنة 1934 إلى مأسسةٍ، حدّدت للمؤدين من مغنّين وموسيقيين تخصّصات، وزّعت عليهم بموجبها مهام وظيفيّة، فتفرّغ ذوو الدربة على القراءة والإنشاد كلّيةً للتلاوة والتوشيح، ما أحدث قطيعةً مع تقليدٍ سبق، سرى بجمع القارئ المنشد ما بين الغناء الديني والدنيوي.

من الناحية الفنيّة، أدى التخصص زمنَ الإذاعة إلى عزل الإنشاد عن التلاقح في البيئة الموسيقية، وحِفظه من أن تتسرّب إليه عناصرُ قد تقترب به من حقل الغناء الدنيوي، وعليه شهد عصر الشيخ الفشني تأصيل التوشيح المصري وتثبيت هويّته ليتحوّل من بعده إلى تقليدٍ ذي سمات واضحة.

أوّل السمات من الناحية الشكلية، الخلوّ من الموسيقى المصاحبة والمرافقة الآلية، التي لا تزال مسألة جوازها موضع خلافٍ فقهي. ثانياً وفي ظلّ غياب المرافقة الآلية، فقد حلّت المصاحبة الجوقيّة، أو ما يُعرف باسم "البطانة" وهي فرقة من المنشدين تُؤازر الصوت المنفرد، تغنّي جماعةً على نغمة موحّدة، مع إمكانية أن تتنوع الطبقات الصوتية بين مرتفعة ومنخفضة، وإن بحدود المجال الرجالي، لها جذورٌ تعود إلى الترتيل الكنسي، ويرجع الفضل إلى الشيخ الفشني، بأن جعلها جزءاً من طاقم العمل الإذاعي.  

من الناحية الجمالية، فقد تمحور الإنشاد حينذاك حول التلاوة القرآنية بوصفها المدرسة الأدائية والمرجعية التعبيرية المركزية، منها يستقي المُنشدِ أدواته في النطق والتطريب وإليها يعود.

خلال الابتهال "يا أيها المختار" يبدو أثر التلاوة بعمق على الاستهلالية المنفردة لطه الفشني، ليس فقط لجهة التصاميم الزخرفية النغمية، وإنما أيضاً توظيف الصمت القابع بين الجُمل المغنّاة، بهدف شدّ انتباه المستمع واستثارته حسّياً.   

أما اليوم، فقد باتت المنصّات الرقمية من يحكم السوق السمعية، التي ما برحت تُفكّك البنى المؤسسيّة التي حددت للشيخ الفشني ومجايليه فيما مضى كلّاً من الإطار والمسار المهني، بينما تتّجه وسائط "الستريمنغ" والسوشال ميديا بالصناعة الفنية إلى مزيدٍ من الفردنة؛ إذ لم تعد وسائل الإعلام الرسمية والخاصة من يرعى الفنانين بإنتاجها لأغانيهم، وطبعها لأسطواناتهم، وترويجها أسماءَهم وتأمينهم معيشيّاً من خلال عقود وظيفية، بل بات على عاتق الفنان أن يُقدّم نفسه، سواء بصورة مباشرة رائدَ أعمالٍ أو من خلال وكلاء.

خلق الواقع الجديد منافسةً شديدة، فرضت على المنشدين تنويع الطُّرز الغنائية بغية البقاء الفني أولاً ثم المادي. كما كانت حالُ الأجداد ما قبل الإذاعة أوّل القرن العشرين، عادوا إلى الغناء الدنيوي غير مقتصرين على الديني.

عُرِف وائل الفشني من خلال تسجيله شارات المسلسلات التلفزيونية (تيتر) ومنها ما لحّن كلماتها بنفسه، مثل مسلسل "واحة الغروب" إنتاج سنة 2017 (كتابة مريم نعنوع وهالة الزعندي، إخراج كاملة أبو ذكري) حصد من ورائها شهرة سريعة وواسعة، كما وفّرت له رديفاً مهنياً مثالياً، حفِظت لمطربٍ ينحدر من سلالة قرّاءٍ ومنشدين قدراً من العفّة الفنيّة، تنأى به عن النزول إلى مستوى الغناء الأكثر خفّة.

تلك المرونة الفنيّة للمنشدين الجدد جعلت الابتهال العصري يقترب شكليّاً من الأغنية، وإن احتفظ ببعض الخصائص المميزة له؛ لئن حوت "ما بك قلبي" على مادة موسيقية إلكترونية، من دون "المعازف" على الأغلب، فإنها اقتصرت على مدّ الغناء بقاعدة نغميّة متحرّكة، تستجيب هارمونيّاً إلى الانتقالات التي يُؤدّيها المؤدي، علاوةً على أن كلّاً من الإيقاع المسموع بوصفه تنويعاً على "الهجع"، والمؤثّرات الرقمية التي تناهى بعضها أصداءَ حلقات ذكر، يؤكدان الهوية التوشيحية للمنتج. أما "بحكمك رضيت" فصوت الغيتار الأكوستي والبيانو وحتى صياغة الكلمات باللغة المحكية، يجعلها أشبه بأغاني البالاد (Ballad) المصري، كالتي للمغني عمر دياب أو تامر حسني. 

لم يطبع عهد التخصص الإذاعي الإنتاج السمعي للشيخ ومن جايله كمّاً وكيفاً فحسب، وإنما صورة القارئ المنشد وشخصيته الفنيّة (Persona) بقدر من الجلال، فاقترنت جماهيريته بمقامه الروحي قبل قامته الفنية. لذا تراه محتفظاً بزيّ المشيخة التقليدي، معتبراً حنجرته هبةً إلهية مُحصّنة بالكرامات والمعجزات. في المقابل، يُطلّ وائل إطلالة نجم جماهيري، وإن من الفئة الأكثر عمقاً والتزاماً، يرتدي قميصاً عصرياً وسروال جينز وفي الوقت ذاته، يضع على كتفه عباءة ويحمل بيده سبحة، فيبدو كلٌّ من الفشني الشيخ والفشني الفنان خيطاً سلاليّاً متّصلاً في بعض الأحيان، منقطعاً في أحيانٍ أخرى.

المساهمون