استمع إلى الملخص
- تبنى البابا فرنسيس رؤية شاملة للفن كوسيلة لمواجهة العنف والتمييز، حيث زار بينالي البندقية 2024، ليصبح أول بابا يزور هذا الحدث الفني العالمي، مما يعكس التزامه بجعل الفن في متناول الجميع.
- أصدر البابا فرنسيس كتاب "فكرتي عن الفن" في 2015، داعياً إلى جعل الفن إرثاً جماعياً، واحتفل بالذكرى الخمسين لمجموعة الفاتيكان للفن المعاصر، مؤكداً على دور الفن في مواجهة الأساطير الزائفة.
في عام 1999، عرض الفنان الإيطالي ماوريتسيو كاتيلان (Maurizio Cattelan)، منحوتته الشهيرة "الساعة التاسعة" (The Ninth Hour)، وهي عبارة عن تمثال بالحجم الطبيعي للبابا يوحنا بولس الثاني، وهو ملقى على الأرض بعد أن سقط عليه نيزك. واجه عمل الفنان الإيطالي قناعات الناس ومقدساتهم، فلا رموز تقليدية ولا مجد سماوياً، بل لحظة سقوط تتقاطع فيها السلطة الروحية مع هشاشة الجسد البشري.
هذا العمل الذي مثل صدمة لكثيرين، لم يكن إلّا تمهيداً لحوار طويل بدأ يتشكل بين الكنيسة والفن من جديد. تسبب عمل كاتيلان في استقالة مدير المتحف الوطني للفن المعاصر في وارسو عندما عُرض هناك عام 2000، لكنّ المفارقة التاريخية تكمن في أن هذا الفنان نفسه، بعد ربع قرن، سيكلفه الفاتيكان بإنشاء عمل فني كبير لجناحه في بينالي البندقية 2024. هذه المفارقة تكشف جوهر رؤية البابا فرنسيس للفن التي تعتمد على الحوار الجريء مع كل الأصوات، حتى تلك التي تنتقد أو تتحدى.
لم تكن هذه العلاقة بين الفاتيكان وكاتيلان عابرة، بل جزء من رؤية أشمل للبابا فرنسيس الذي رأى أن الفن يمكن أن يكون وسيلة لمواجهة العنف والتمييز، كما قال خلال زيارته التاريخية لبينالي البندقية 2024، هذه الزيارة التي جعلته أول بابا في تاريخ الفاتيكان يزور هذا الحدث الفني العالمي. مثلت هذه الزيارة لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الكنيسة والفن المعاصر، ولعل ما جعلها زيارة استثنائية كان موقع المعرض نفسه، الذي أقيم داخل سجن نسائي في جزيرة جوديكا، ونُفذت الأعمال المعروضة فيه بالشراكة مع السجينات.
في عام 2015، أصدر البابا كتاباً بعنوان "فكرتي عن الفن"، ضم عدداً من الحوارات التي أجرتها معه الصحافية الإيطالية تيزيانا لوبي. في هذا الكتاب، أعلن البابا صراحةً أن الفن يجب أن يكون في متناول الجميع، وليس امتيازاً للصفوة، وطالَب أيضاً بفتح المتاحف أبوابها للناس من جميع أنحاء العالم، وأن تتحول أداةً للحوار بين الثقافات والأديان. وقد ترجم البابا فرنسيس هذه الرؤية عبر إعادة ثلاثة أجزاء من رخام البارثينون إلى اليونان عام 2023. لم يكن هذا مجرد تصرف شكلي، بل كان محاولة عملية لرأب الصدع بين الشرق والغرب الكنسي، وترسيخ فكرة أن الفن إرث جماعي لا ينبغي احتكاره. وفي خطوة جريئة، فتح البابا قصور الفاتيكان التي كانت مغلقة لقرون أمام الجمهور لأول مرة في 2021، وأمر بتنظيم جولات للمشردين في المتاحف التابعة للفاتيكان. وفي عام 2023، احتفل البابا بالذكرى الخمسين لمجموعة الفاتيكان للفن المعاصر، ودعا حينها مئتي فنان معاصر إلى كنيسة السيستين، وقال لهم مخاطباً إنكم مثل الأنبياء، تواجهون ما هو غير مريح، وتنتقدون الأساطير الزائفة لهذا العصر. هذه العلاقة الحميمة مع الفن، جعلت صورة البابا إحدى الأيقونات البصرية الموظّفة في أعمال العديد من الفنانين المعاصرين.
خارج جدران الفاتيكان، كان البابا فرنسيس حاضراً في شوارع روما مرسوماً على الجدران والأسوار. في جدارية شهيرة رسمها فنان الشارع ماورو بالوتا عام 2014، ظهر البابا في هيئة بطل خارق، يطير بحقيبة نُقش على مقبضها صليب كميدالية صغيرة. لم يكن هذا تملّقاً، بل احتفاء بفكرة أن البطولة يمكن أن تكون في التواضع، وأن البابا يمكن أن يتحول إلى رمز شعبي يتجاوز الإطار الرسمي. وفي عمل آخر، صوّر الفنان البابا وهو يقف على سلّم صغير يرسم رموز السلام في لعبة "إكس- أو" على جدار بجوار نافذة متجر، بينما يمر أحد الحراس من دون أن يلاحظ. لوحة جدارية ثالثة نفذها الفنان نفسه بأسلوب الرسوم المتحركة، تصور البابا فرنسيس وهو يحمل مقلاعاً مزوّداً بمقذوف أحمر على شكل قلب.
هناك العديد من الفنانين المعاصرين الذين استلهموا صورة البابا فرنسيس في أعمالهم. بينهم على سبيل المثال الفنان التشيلي آل سانتياغو الذي أنشأ سلسلة من الأعمال تصور البابا نجماً سينمائياً. هذه الأعمال التي ولدت عفوية من الشارع، تعكس كيف رأى الفنانون، والمجتمع الأوسع في البابا فرنسيس تجسيداً للقيم التي يؤمنون بها، كالتواضع والسلام والانفتاح على الآخر.
كان الباب فرنسيس بالنسبة لهم أكثر من مجرد زعيم ديني، بل شخصية قادرة على تجسيد التطلعات الإنسانية نحو السلام والمحبة.
رحل البابا لكنّ إرثه الفني يبقى شاهداً على رؤيته المتجددة للعلاقة بين الكنيسة والفن. وربما يكون أعظم إنجاز فني للبابا فرنسيس هو تحويل الفاتيكان نفسه إلى عمل فني حي، عمل يتحدى التصنيفات الجاهزة، ويحتفي بالتناقضات، ويصرّ على أنّ الفن، حتى في أكثر أشكاله إثارة للجدل، يمكن أن يكون جسراً نحو الحوار والفهم المتبادل.