الإيطالي توني سِرْفيلّو: عبقرية أداء صادق

الإيطالي توني سِرْفيلّو: عبقرية أداء صادق

08 نوفمبر 2021
توني سِرْفيلّو (1959): أداء مُركَّب ومؤثّر وصادق (إيفان رومانو/ Getty)
+ الخط -

أنجبت المدينة الإيطالية الجنوبية نابولي، سابقاً، عباقرة في التمثيل الكوميدي، كإدواردو سكاربيتا وتوتو. درامياً، تطول اللائحة، التي تألّق فيها مؤخّراً توني سِرْفيلّو وسيلفيو أورلاندو، والمخرجون باولو سورّنتينو وإدواردو دي كونستانزو وماريو مارتوني. المشترك بينهم جميعاً كامنٌ في تمرّسهم المسرحي، تمثيلاً وإخراجاً وكتابة، ما يثير الكثير بخصوص أهمية المسرح للسينما، وقوّته وقدرته البالغتين على تخريج ممثلين أقوياء تحديداً. يتجلّى هذا، بشدّة، عند اشتغالهم في السينما، في أفلامٍ مناسبة.

التأثير الكبير لنابولي على السينما الإيطالية لم ينقطع حتّى اللحظة، فالمدينة قدّمت ـ في عقودٍ عدّة ـ مشاهير موهوبين للغاية، تمثيلاً وإخراجاً، وإنتاجاً أيضاً، علماً أنْ أبرز منتجين اثنين من نابولي هما دينو دي لورنتس، الذي له أدوار عدّة كممثل في بدايات مهنته، قبل أن يُنتج ـ بمفرده ومع شركاء ـ نحو 500 فيلم؛ والسيناريست والمخرج جوزيبّي أماتو، مُنتج عشرات الأفلام، ومكتشف مخرجين عديدين.

في التمثيل النسائي، لم تستطع أي ممثلة نابوليتانية أنْ تتفوّق على اسم صوفيا لورين وشهرتها، أو أنْ تظغى أو تتجاوز حِرْفتها التمثيلية. مصادر إيطالية نابوليتانية تؤكّد أن لورين ابنة نابولي أساساً، لا روما كما هو شائع. في الإخراج، ظهرت ـ في العقد الثاني من القرن الـ20 ـ أسماء عدّة، كفرانكو روسّي وجابريلي سالفاتوريس.

 

أداء متألّق

لتوني سِرْفيلّو حضورٌ لافت للانتباه مؤخّراً، بفضل تأديته 3 أدوار في 3 أفلام حديثة الإنتاج (2021)، تستدعي قراءة نقدية له ولأفلامه تلك.

 

 

منذ بروزه اللافت للانتباه في "تبعات الحب" (2004) لباولو سورّنتينو، مؤدّياً دور تيتا دي جيرولامو، ثم عالمياً في شخصية فرنكو في "غومّورا" (2008) لماتّيو غارّوني، وتألّقه اللاحق في "الجمال الباهر" (2013) لسورّنتينو أيضاً، في دور جَبْ غامبارديلاّ، لا يزال الممثل والمخرج المسرحي الإيطالي توني سِرْفيلّو (1959) يتألّق بكثرة، ويفرض نفسه على الساحات والمهرجانات الدولية، رغم أعماله القليلة نسبياً في السينما الإيطالية والعالمية.

عام 2021، تجلّت موهبته في 3 أفلام إيطالية، شاركت في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، ما شَكّل فرصة نادرة لقراءة طاقة هذا الممثل الفذّ، وقدرته على التنقّل بين أدوار متفاوتة المستويات، تراوحت براعته التمثيلية فيها، بناء على حجم كلّ دور، من أداء جيد إلى تجسيد بارع، وصولاً إلى تقمّص مذهل.

في "يد الله" لباولو سورّنتينو (المسابقة الرسمية)، قدّم توني سِرْفيلّو أداءً جيداً، في حدود الدور المرسوم له في السيناريو، لشخصية سافِريو سْكيسا، الشيوعي والمصرفي المفعم بالطاقة وحبّ الحياة، ووالد المراهق فابيَتّو (فيليبّو سْكوتّي)، الذي كان التركيز الرئيسي على شخصيته، فالفيلم يسرد أساساً قصّة فابيَتّو/ سورّنتينو، في تلك المرحلة من حياته، في إطار دراما عائلية، فيها الكثير من الخلطة المعروفة لسورّنتينو في أفلامٍ كهذه.

برزت موهبة سِرْفيلّو أكثر في "القفص الداخلي" (ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي، والعنوان الإيطالي Ariaferma)، لليوناردو دي كونستانزو (خارج المسابقة)، بتأديته الرائعة دور غايتانو غارجيولو، الضابط الهادئ والحكيم والصارم والكاريزمي. جزء من هذا البروز مردّه موهبة سِرْفيلّو وتمكّنه من تجسيد الشخصية، والإمساك بمفاتيحها، والإقناع بها، مستعيناً بتعبيرات الوجه والجسد والصوت؛ وجزء آخر مردّه شخصية المافياوي الغامض كارمين لاجُويا، التي أدّاها بشكلٍ رائع أحد أبرز الممثلين الإيطاليين المعاصرين، سيلفيو أورلاندو، مؤدّي شخصية الكاردينال أنجيلو فويِلّو في "البابا الشاب" (2016) و"البابا الجديد" (2020) لسورّنتينو نفسه.

 

مبارزة تمثيلية

ينتمي "القفص الداخلي" إلى دراما السجون، في إيطاليا الحديثة، حيث يتمّ إيقاف تشغيل سجن قديم في جزيرة سردينيا. كان حرّاسه يشربون نخب عودتهم الوشيكة إلى منازلهم، عندما أبلغتهم إدارة السجن أنّ هناك 10 سجناء سيبقون فيه أياماً أخرى، بسبب مشكلة مفاجئة في السجن الذي كان مقرّراً نقلهم إليه. لذا، يجب أن يبقى ضباطٌ قلائل في المبنى، بقيادة غارجيولو، لحراسة السجناء. الجانبان ليسا متجانسين تماماً. هذا يولّد صراعاً. لم يركن المخرج إلى نوبات العنف الشديد، أو الفوضى المعتادة في أفلامٍ كهذه. على العكس، يُصوّر بيئة أكثر احتواءً وواقعية، قوامها لعبة ذكاء بين الجانبين، في مكان ليس فيه الكثير ليفعله المرء.

كلّ إطار في الفيلم يدور حول تكسير الفروقات بين الحرّاس والسجناء، وكشف التناقضات والقسوة في نظام أي سجن. يُجرّب السجناء كلما استطاعوا، لكنْ، يُرحّب بهم بهدوء وعقلانية غالباً، خاصة من توني سِرْفيلّو، الذي يمتصّ غضبهم، بإنسانية لا مكان لها في القواعد الصارمة للسجن، وبضبط نفس يُحسَد عليه. يبلغ عدم وضوح الحدود ذروته في تسلسل سحري لانقطاع الكهرباء في السجن، فيُجبر الجانبان على تناول الطعام معاً في الفناء الداخلي بين الزنازين، على ضوء البطاريات والشموع. لا يهمّ من هم، وما يفعلون. في هذه اللحظة، جميعهم أشخاص يحاولون تمضية ليلتهم، والاستمتاع بوجبة لذيذة مطبوخة باحتراف وذوق وفنّ، بيديّ كارمِن لاجُويا.

الفيلم أقرب إلى منهجِ دراسةٍ درامية ونفسية وتمثيلية، عميقة وثرية، لشخصيتين "كاريزماتيّتين". يحتلّ غايتانو غارجيولو وكارمِن لاجُويا مركزي الصدارة. يكتشفان، بعد تجربة وحياة مختلفة بينهما إلى حدّ النقيض، أن هناك قواسم مشتركة بينهما أكثر مما يعتقدان، رغم أنّهما بالكاد يتحدث أحدهما مع الآخر. مع ذلك، هناك مبارزة تمثيلية بين توني سِرْفيلّو وسيلفيو أورلاندو، اللذين يُقدّمان فيها "الكثير جداً" عبر "القليل جداً"، غالباً. الاستعانة بالصمت وتبادل النظرات قاسم مشترك. كما لو أن الشخصيتين تفهمان أنْ لا فائدة من الانغماس في متاعب حياةٍ توشك على الانتهاء. هناك مشهد مؤثّر بينهما، عندما يتوجّهان إلى خارج السجن لقطف الخضار، لتناول وجبة المساء. فيه، يبدوان كما لو أنّهما متقاعِدَين، من قرية واحدة، يستعيدان ذكريات، ويمضيان معاً لحظات هادئة تحت الشمس.

يتناول "أنا هنا أضحك"، لماريو مارتوني (المسابقة الرسمية)، الأعوام الأخيرة من حياة الكاتب والممثل المسرحي النابوليتاني الأسطوري إدواردو سكاربيتا (1853 ـ 1925). الفيلم يتاخم حدود السخرية الذاتية، فالمحاكاة الساخرة الطريقة المفضّلة لسكاربيتا في الأداء المسرحي. جذبت مسرحياته (أعمال مُقتبسة أو محاكاة ساخرة) حشوداً كبيرة، استمتعت بكوميدياه الفارْسِيّة (Farce)، الطازجة والمُنعِشَة. يركّز الفيلم، الغارق في إيطاليته، على كواليس الحياة الخاصّة والعملية لشخصية أكبر من الحياة.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هذه الحياة الشخصية منفتحة بشكل كبير، وغير مقيدة وغير ملتزمة كحضوره على المسرح، إلى درجة يصعب تقديمها بشكل شامل على الشاشة. شجرة عائلته تعجّ بالأبناء والأحفاد، المعترف بهم وغير الشرعيين على حدّ سواء. ورغم عدم التفرقة بينهم في المعاملة، رفض سكاربيتا الاعتراف ببعضهم رسمياً. الكاتب المسرحي إدواردو دي فيليبو، أحد عمالقة المسرح الإيطالي، الذي يظهر في الفيلم صبياً مولعاً بالكتابة والتمثيل، يرغب في السير على خطى والده، رغم معارضة والدته، خيّاطة الفرقة. لذا، يهتم الفيلم بالولادة والترابط والتآخي والتشاحن الداخلي في المنزل، المليء بالدراما العائلية. ذلك أنّ كلّ أفراده يعملون في فرقة سكاربيتا وشركته المسرحيتين.

 

محاكمة الأدب

في جولة لها، تتوقّف الفرقة في روما لمشاهدة مأساة جديدة لأكبر شاعر إيطالي حينها، غابريلّي دانونزيو، بعنوان "ابنة إيوريو". العمل الجاد يُلهم سكاربيتا، فيتخيّل أنّه يؤدّيه على خشبة المسرح، في محاكاة ساخرة. احتراماً له، يزور دانونزيو، ويطلب منه الإذن في محاكاة المسرحية. يوافق الفنان المُزعج، ويؤكّد له عدم إثارته أي مشكلة، إذا قام سكاربيتا بمحاكاة ساخرة لعمله. لكنْ، يتّضح أنّ هذه كذبة. ليلة افتتاح المحاكاة، يرى كتابٌ إيطاليون جدد عمل دانونزيو مُقدّساً، مُطلقين صيحات الاستهجان على المسرحية قبل نهاية فصلها الأول. بعد هذه اللحظة المهينة، ترفع "جمعية المؤلّفين الإيطاليين" دعوى قضائية بتهمة الانتحال، ما يُهدّد بتدمير سمعة سكاربيتا وعائلته وتاريخهما.

يرصد الفيلم أول محاكمة إيطالية لحقوق الطبع والنشر، والحدود بين المحاكاة الساخرة والسرقة الأدبية أو الانتحال، ضد سكاربيتا. الفيلسوف والناقد الأدبي بينيديتو كروتشي يقف إلى جانب سكاربيتا. في هذه اللحظة، يكتسب الفيلم زخماً، ويُصبح دراسة مثيرة لكلّ ما يُهدّد بتدمير حياة الرجل وتاريخه. يزداد التركيز على التوتّرات الداخلية للكاتب والممثل والقائد، وعزلته الشخصية المتزايدة، وانغماسه في ذاته، وكفاحه لتحديد موقعه وحياته المقبلة، إلى حدّ لا يرى فيه أنّ عائلته وفرقته تنهاران، ولا يلمس ازدراء المجتمع الثقافي في نابولي له. لكنّ تلك الشخصية الأسطورية تفيق من كبوتها، في مشهد المحاكمة، المهمّ وشديد السخرية والجدّية. إنّه أحد أبرع مَشاهد الكوميديا في السينما الإيطالية الحديثة.

في "أنا هنا أضحك"، تظهر القوّة الحقيقية لسكاربيتا، بفضل التمثيل المذهل لتوني سِرْفيلّو، الذي تعامل مع شخصية المسرحي الساخر كتحدٍّ تمثيلي فريد: في الأداء الجسدي، ونبرات الصوت، وإبراز الكاريزما والقيادة، وزيادة الوزن للتطابق مع الشخصية الأصلية. الفيلم نموذجٌ مثالي لممثل متألّق، مُنح فرصة كبيرة لإظهار قوّته وجاذبيته كممثل كوميدي مهمّ، إضافة إلى تألّقه التراجيدي.

ليس سهلاً تأدية شخصيات عدّة متنوّعة، وإقناع الجمهور بها، في أكثر من فيلم، وفي وقتٍ واحد. هذا فعله توني سِرْفيلّو بسلالة ملحوظة، وحرفية لافتة للانتباه، وأداء مُركّب ومؤثّر، مُبرزاً مدى صدق وعمق تفاعلاته مع الشخصيات التي مثّلها.

المساهمون