الإنكار... آخر أسلحة الإعلام الإسرائيلي أمام الإبادة
استمع إلى الملخص
- رغم الأدلة البصرية والتقارير الحقوقية، يتسم الإنكار الإسرائيلي بالتطرف والبساطة، حيث يتم وصف كل شيء بأنه "مفبرك" أو "مزيف"، مما يعكس تحولًا نحو مرحلة "ما بعد الحقيقة".
- يشمل الإنكار استخدام الذكاء الاصطناعي لتبرير الصور والفيديوهات كمولَّدة، متجاهلاً المعاناة الإنسانية في غزة، مما يثير تساؤلات حول فعالية كشف الانتهاكات في إحداث تغيير حقيقي.
عادة ما يستخدم الإنكار، على أنه أحد الأسلحة الإعلامية في الحروب والإبادات الجماعية. حصل ذلك عبر التاريخ، في الحروب العالمية، في رواندا، وفي فلسطين وغيرها. وكان إنكار حصول الجرائم أو المجازر سهلاً أمام قلة التوثيق وندرة الصور واللقطات التي تؤكّد الجريمة على اعتبارها حادثة تاريخية موثقة. لنأخذ النكبة الفلسطينية على سبيل المثال: أمام كل رواية فلسطينية عن مجزرة وتهجير وتطهير عرقي، كانت تظهر رواية إسرائيلية مقابلة، وفي ظل غياب التوثيق البصري بدا الإنكار أسهل الأسلحة المضادة.
لكن كل ما سبق بات مستحيلاً حالياً، نتحدّث بشكل أكثر تحديداً عن حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة. 23 شهراً من التوثيق المتواصل، لحظة بلحظة، لكل مجزرة وكل جريمة (بعض التوثيق كان من جنود الاحتلال أنفسهم). ورغم ذلك عاد الاحتلال ليستخدم نفس السلاح، وإن كان مدركاً أن تصديقه بات شبه مستحيل.
منذ السابع من أكتوبر، تحوّلت غزة إلى المسرح الأكثر مراقبة في العالم. لم يشهد التاريخ الحديث مجزرة وُثّقت بهذا الحجم من الصور ومقاطع الفيديو، من زوايا لا نهائية، وعلى مدار اللحظة، معزَّزة بتقارير حقوقية ومواد صحافية.
وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية قلبت المعادلة التي عرفها العالم في البوسنة ورواندا؛ لم يعد التوثيق مسألة صعبة، بل أصبح لحظياً وفورياً. ورغم ذلك، فإنّ هذا السيل الجارف من الأدلة لم يغيّر من موقف قطاعات واسعة داخل إسرائيل وأنصارها حول العالم. على العكس، برز خطاب أكثر حدة وإنكارًا، يقوم على معادلة تبدو صادمة: "لا يوجد ضحايا مدنيون في غزة". يصف موقع +972 الإسرائيلي هذا الوقع، بالتحول الأعمق "في المجتمع الإسرائيلي: دخول مرحلة ما بعد الحقيقة، وما بعد الخجل".
الإنكار أمام الفظائع ليس ظاهرة إسرائيلية فحسب، لكنه في السياق الإسرائيلي أخذ شكله الأكثر تطرفاً. لطالما استندت دولة الاحتلال إلى سردية "طهارة السلاح"، أي أنها لا تلجأ للعنف إلا دفاعًا عن النفس، وإلى عقلية "نطلق النار ونبكي"، التي تزعم أن الإسرائيليين يحتفظون بتفوق أخلاقي لأنهم يشعرون بالأسى بعد ارتكاب القتل. هذه السردية "الأخلاقية" والكاذبة بطبيعة الحال، بدأت تتآكل. لم يعد إنكار الجرائم يُقدَّم تحت غطاء أخلاقي أو قانوني كما في السابق، بل صار أكثر مباشرة وبساطة: كل شيء "مفبرك"، كل صور المجاعة والقتل "مزيفة"، وكل مشاهد الدمار "ممثلة بإتقان".
المفارقة أن هذا الإنكار لم يعد حتى بحاجة إلى تبريرات معقدة أو تحقيقات مضادة، كما حدث في قضية الطفل محمد الدرة عام 2000. آنذاك، استثمرت إسرائيل مئات الساعات لإثبات أن اللقطات "ملفّقة"، عبر تحليل زوايا التصوير والرصاصات. أما اليوم، يكفي تعليق مقتضب على تويتر أو في مؤتمر صحافي: "مزيف… انتهى النقاش".
مصطلح "بالييود" (Pallywood) الذي راج في أوساط اليمين الأميركي في مطلع الألفية، تسلّل سريعاً إلى إسرائيل. الفكرة بسيطة: الفلسطينيون، بحسب الرواية الإسرائيلية، يمتلكون "صناعة أفلام" متقنة لتزييف مشاهد المعاناة، بالتعاون مع منظمات حقوقية ووسائل إعلام عالمية.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي، توسّعت الحيلة أكثر: كل صورة لطفل جائع أو حي مدمّر تُفسَّر بأنها "مولَّدة بالذكاء الاصطناعي"، وكل مقطع فيديو لضحايا القصف يُتهم بأنه "منتج فلسطيني"، حتى لو التقطته عدسات وكالات أنباء إسرائيلية.
من المجاعة إلى المقابر الجماعية، يواجه الخطاب الإسرائيلي وقائع لا يمكن دحضها. شعب محاصر منذ أكثر من 18 عامًا، مدمّرة بنيته التحتية وموارده، ومع ذلك تصر الحكومة الإسرائيلية ومسؤولوها على وصف صور الأطفال الهزلى بأنها "واقع افتراضي"، أو أنها "أطفال يمنيون"، أو "دُمى مسرحية".
حتى بنيامين نتنياهو تحدث عن "تصوّر أزمة إنسانية" لا أكثر، بينما وصف وزير الخارجية جدعون ساعر المشاهد بأنها "صور مُفبركة من حماس".
لأعوام طويلة، افترضت حركات حقوق الإنسان أن كشف الانتهاكات سيحرج مرتكبيها ويدفعهم إلى التراجع. لكن ماذا يحدث عندما تتلاشى القدرة على الإحراج أصلاً؟
اليوم، ينشر الجنود الإسرائيليون أنفسهم مقاطع لانتهاكات حقوقية على وسائل التواصل الاجتماعي، لا لإدانتها بل للاحتفاء بها. نواب في الكنيست يعلنون صراحة أن ما يجري في غزة هو "نكبة ثانية"، بل يُمنع استخدام مصطلح "نكبة" فقط عندما يصف ما مضى، لا ما يحدث الآن.
أمام هذا الواقع لا يبدو مستغرباً أن توقع إسرائيل اتفاقيات بـ45 مليون دولار مع "غوغل" لهدف وحيد هو إنكار وجود مجاعة في غزة. إنكار بلا خجل أمام صور عظام الأطفال وجثثهم.