استمع إلى الملخص
- برزت وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة بديلة، حيث قدمت محتوى مباشراً من غزة، مما ساهم في تحريك الشارع الأوروبي وكسر الرقابة التقليدية، واستخدم الجيل الفلسطيني الجديد أدوات رقمية لمواجهة التضليل الإعلامي.
- بدأت وسائل الإعلام الأوروبية بطرح أسئلة حول مسؤولية الحكومات في دعم إسرائيل، وظهرت مصطلحات مثل الإبادة الجماعية، رغم استمرار تحديات ضعف تمثيل الصوت الفلسطيني والتحيزات اللغوية.
على مدار عامين من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، شهدت التغطية الإعلامية الأوروبية تحولات جوهرية، لم تعكس تغير المواقف السياسية فقط، بل كشفت اضطراب السرديات التقليدية حول ما يُسمى بـ"الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي"، وأظهرت وعياً شعبياً متزايداً تجاه عدالة القضية الفلسطينية.
بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذها المقاومون الفلسطينيون في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اندفعت وسائل الإعلام الأوروبية لتغطية العدوان على غزة بزخم لافت، مترافقة مع العناوين الرئيسية، والبث المباشر، والصور الدامية، وشهادات من تحت القصف. برز قصف المستشفى المعمداني نقطة تحوّل مفصلية، إذ أثار موجة تعاطف دولية واسعة، وساهم في كسر بعض المحظورات السردية، متجاوزاً ما كان يُعرف بـ"الحياد الزائف". في تلك الفترة، هيمن البعد الإنساني على التغطية، مع التركيز على الضحايا المدنيين، خصوصاً الأطفال والنساء، وتوثيق دمار البنية التحتية ونزوح الأهالي. بدا أن الإعلام الأوروبي بدأ يكسر الانحياز المقنع ويكشف مأساة غزة كما هي.
مع مرور الوقت، فقدت التغطية حيويتها، وبرزت أصوات نقدية تنتقد الخلل البنيوي في سرديات الإعلام الأوروبي. وأشارت تحليلات، مثل دراسة دنماركية في مايو/ أيار 2025، إلى النقاط التالية:
- هيمنة المصادر الإسرائيلية: اعتماد التغطية على الرواية الرسمية الإسرائيلية، وتقديم الرواية الفلسطينية كـ"ردات فعل"، ما أحدث اختلالاً في التوازن.
- تهميش صوت الضحايا الفلسطينيين: غياب أو غموض أصوات المدنيين أضعف الارتباط الإنساني مع القراء.
- لغة محايدة مضللة: استخدام عبارات مثل "يُقال" أو "يُعتقد" حتى في تغطية موثقة للضحايا، ما قلل الإحساس بالمسؤولية تجاه الفاعل.
- طمس الهوية الفلسطينية للضحايا: غياب ذكر كون الضحايا فلسطينيين حوّل المعاناة إلى مجرد أرقام.
- تراجع التركيز على الأزمات الإنسانية: حلت سرديات أمنية وسياسية محل التركيز على الحصار والقصف وانهيار الخدمات، مع إعادة إنتاج خطاب "حق الدفاع الإسرائيلي".
على النقيض من الإعلام التقليدي، برزت وسائل التواصل الاجتماعي منصة بديلة أعادت تشكيل وعي الجمهور الأوروبي والعالمي تجاه غزة، عبر تفكيك الرواية الرسمية من خلال محتوى مباشر من غزة يقدمه صحافيون وأطباء وعائلات، وإضفاء الطابع الإنساني عبر مقاطع قصيرة ومؤثرة تعرض معاناة الأطفال والعائلات والطواقم الطبية، وتحريك الشارع الأوروبي عن طريق تظاهرات حاشدة في العواصم الأوروبية مدفوعة بالمحتوى الرقمي، وكسر الرقابة والتعتيم من خلال الإصرار على وصول المحتوى الفلسطيني رغم حجب الإنترنت وتضييق الخناق، فضلاً عن إبداع رقمي للمقاومة من خلال جيل فلسطيني جديد يستخدم الإنفوغرافيك والفيديوهات والفن أدوات مقاومة، ومواجهة التضليل والتمييز بين الحقيقة والدعاية.
مع استمرار الحرب، بدأ الإعلام الأوروبي ينتقل من التعاطف إلى طرح أسئلة سياسية وأخلاقية: ما مسؤولية المفوضية الأوروبية في دعم إسرائيل؟ هل ساهمت حكومات أوروبية في تمويل أو تبرير الانتهاكات؟ أين "القيم الأوروبية" حين يُقتل الأطفال تحت القصف؟ وظهرت مصطلحات كانت حتى وقت قريب محرّمة، مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، مع تبني بعض الوسائل خطاباً قانونياً وأخلاقياً أكثر وضوحاً، مدعوماً بوثائق وتحقيقات دولية. وابتداءً بالتركيز على "الأمن الإسرائيلي" و"حق الدفاع عن النفس"، ظهرت سرديات جديدة مع تصاعد المأساة: التركيز على الكارثة الإنسانية (استهداف المستشفيات والمدارس وانقطاع الخدمات الأساسية)، وشهادات موثقة عن انتهاكات صارخة. حتى وسائل الإعلام العامة في دول مثل السويد والدنمارك بدأت استخدام مصطلحات مثل "مجازر" و"إبادة"، ضمن تغطيات تستند إلى تحقيقات دولية، موسعة نطاق النقاش الأخلاقي والقانوني من دون إلغاء الإطارات القديمة.
وعلى الرغم من التطورات، فلا تزال التغطية الأوروبية تواجه فجوات واضحة: ضعف تمثيل الصوت الفلسطيني المباشر، وندرة التحقيقات الاستقصائية الجادة، وتحيّزات لغوية تُضعف تحميل المسؤولية للاحتلال، واستبعاد متعمد أحياناً للصحافيين المحليين. لكن الإعلام الأوروبي لم يعد بمنأى عن المساءلة، فالرأي العام، وخصوصاً الشباب، أصبح أكثر وعياً وأكثر رفضاً للانحياز أو الصمت. اليوم يختبر الإعلام الأوروبي لحظة فارقة: هل يظل ناقلاً للرواية السياسية، أم يتحوّل إلى منصة مساءلة حقيقية تُنصف الضحايا وتكشف الحقيقة؟ رغم أن "عدالة سردية" كاملة لم تتحقق بعد، فإن السردية الفلسطينية لم تعد غائبة أو مهمشة كما كانت. في عصر الشاشات المفتوحة والمنصات الحرة، غزة، بكل دمائها وصمودها، باتت حاضرة في كل بيت، كل شاشة، وكل ضمير حي.