الإعلام الأميركي يتحد في مواجهة البنتاغون

14 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 16:51 (توقيت القدس)
وزير الدفاع بيت هيغسيث يدلي بتصريحاته للصحافة، 6 مارس 2025 (وين ماكنامي/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الأزمة بين البنتاغون والإعلام تتعلق بسياسة جديدة تفرض على الصحافيين توقيع تعهّد يقيد تعاملهم مع المعلومات "غير المصرّح بها"، مما أثار جدلاً حول حرية الصحافة وشفافية المعلومات.

- رفضت مؤسسات إعلامية كبرى مثل "ذي أتلانتيك" و"واشنطن بوست" توقيع التعهّد، معتبرة أن القيود تهدد حقوقهم الدستورية، بينما وقّعت شبكة One America News Network المحافظة على الوثيقة.

- من المتوقع أن تؤدي القيود إلى تقليص عدد الصحافيين المعتمدين في البنتاغون، مما قد يؤثر على مراقبة الشؤون العسكرية ويثير تساؤلات حول مستقبل حرية الصحافة.

في لحظة فارقة من علاقة السلطة الأميركية بالإعلام، تفجّرت أزمة بين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ومؤسسات الصحافة الكبرى، بعدما فرضت الوزارة سياسة جديدة تُلزم الصحافيين بتوقيع تعهّد يقيد تعاملهم مع المعلومات "غير المصرّح بها". ما بدا في البداية إجراءً إداريّاً داخليّاً تحوّل سريعاً إلى معركة دستورية مفتوحة حول حدود الشفافية وحرية الصحافة في قلب المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم. وبين دفاع البنتاغون عن "أمن المعلومات"، ورفض المؤسسات الإعلامية لما اعتبرته "تجريماً للعمل الصحافي"، تصاعدت المواجهة إلى اختبار سياسي وأخلاقي لقيمة التعديل الأول في الدستور الأميركي، وللسؤال الأعمق: هل لا تزال حرية الإعلام في الولايات المتحدة قادرة على الصمود أمام نزعة التقييد باسم الأمن القومي؟

خلفية الأزمة بين البنتاغون والإعلام

في الأسابيع الأخيرة، كشف البنتاغون عن مجموعة قيود إعلامية جديدة تلزم الصحافيين الراغبين في الاحتفاظ باعتمادهم الصحافي داخل المبنى العسكري بإمضاء تعهّد يقرّ بالتقيّد بقواعد الوزارة في التعامل مع المعلومات، بما في ذلك معلومات لم يُصرّح بها رسمياً للنشر. هذه السياسة تمثّلت في وثيقة أولية من 21 صفحة، تضمنت بنوداً تُصنف حرية الصحافيين في طلب أو الحصول على معلومات "غير مصرح بها" بوصفها عاملاً يمكن على أساسه اعتبارهم "خطراً أمنياً" وسحب اعتمادهم. وبعد احتجاج واسع من مؤسسات الصحافة ومنظمات الدفاع عن حرية الإعلام، أجرى البنتاغون تعديلاً جزئيّاً: الوثيقة باتت لا تُلزم الصحافي بتسليم تقاريره قبل النشر، لكنه لا يزال مطالَباً بـ"إقرار فهمه" للسياسة، مع تهديد بحجب الاعتمادات في حال الرفض. منح البنتاغون مهلة حتى الساعة الخامسة من مساء اليوم الثلاثاء (بالتوقيت المحلي) لتوقيع التعهّد، ومن لا يوقع يسلّم بطاقته الصحافية في اليوم التالي. وفي هذا السياق، دعا وزير الدفاع بيت هيغسيث إلى اعتبار الوصول إلى البنتاغون "امتيازاً وليس حقاً" في منشور كتبه على منصة إكس، مرفقاً إياه برمز تعبيري للوداع موجه إلى رافضي هذا الإجراء.

موقف صحافي موحد

ردّت مجموعة واسعة من المؤسسات الإعلامية – من اليمين والوسط واليسار – برفض قاطع لتوقيع التعهّد أو الالتزام بالقيود الجديدة، معتبرة أنها تهدّد جوهر حرية الصحافة بموجب التعديل الأول للدستور الأميركي. أكد رئيس تحرير مجلة ذي أتلانتيك، جيفري غولدبرغ، في بيانٍ صدر أمس الاثنين أن فريقه لن يوقّع الوثيقة الجديدة، وأوضح قائلاً: "نحن نعارض بشكلٍ جوهري القيود التي تفرضها إدارة دونالد ترامب على الصحافيين الذين يغطّون شؤون الدفاع والأمن القومي. هذه المتطلبات تنتهك حقوقنا الدستورية التي يكفلها التعديل الأول، وحقوق الأميركيين في معرفة كيفية استخدام الموارد والأفراد العسكريين المموّلين من أموال دافعي الضرائب". وقال رئيس تحرير صحيفة واشنطن بوست، مات موراي، إن القيود المقترحة "تُقوّض حماية التعديل الأول من خلال فرض قيود غير ضرورية على جمع المعلومات ونشرها". وجاء في بيانٍ لـ"سي أن أن": "ستواصل الشبكة أداء مهمتها في تغطية وزارة الحرب والجيش الأميركي وإدارة ترامب بإنصافٍ وشمول، سواء أُتيح لها الدخول إلى مبنى البنتاغون أم لا. لن نحيد عن واجبنا في محاسبة الجهات الثلاث جميعها، وسنواصل تغطية قرارات الحكومة الأميركية من دون خوف أو محاباة". أما مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في واشنطن، ريتشارد ستيفنسون، فقال الجمعة الماضي: "لن يوقّع صحافيو نيويورك تايمز على سياسة البنتاغون المعدّلة الخاصة ببطاقات الاعتماد الصحافية، لأنها تهدّد بمعاقبتهم على جمع الأخبار، وهي ممارسة محمية بالتعديل الأول. عبّرنا منذ الإعلان الأول عن قلقنا من أن هذه السياسة تقيّد طريقة تغطية الصحافيين للمؤسسة العسكرية الأميركية التي تُموّل سنوياً بما يقارب تريليون دولار من أموال الضرائب".

من جهتها، أعلنت رابطة مراسلي البنتاغون في بيانٍ صدر الاثنين: "يبدو أن معظم أعضاء الرابطة سيسلّمون بطاقاتهم يوم الأربعاء، بدل أن يقرّوا بسياسةٍ تُكمّم أفواه موظفي البنتاغون وتلوّح بالانتقام من الصحافيين الذين يسعون إلى الحصول على معلوماتٍ لم تُوافق الوزارة مسبقاً على نشرها". وحثّت الرابطة مسؤولي البنتاغون على إعادة النظر في السياسة الجديدة.

"نيوزماكس" و"واشنطن تايمز" (يمينيتان) أعلنتا رفضهما أيضاً، ووصفتا الإجراءات الجديدة بأنها "غير ضرورية ومثقلة بالقيود". مؤسسات أخرى مثل "إن بي آر" و"رويترز" و"ذا غارديان" أكدت أنها لن توقع، مشيرة إلى أن السياسة تُمثّل تهديداً دستورياً لحرية الصحافة. كما أيدت رابطة مراسلي البيت الأبيض ورابطة مراسلي وزارة الخارجية الموقف الإعلامي المشترك، معلنة تضامنها مع الصحافيين المطالبين بحرية الوصول إلى المعلومات والشفافية.

في المقابل، وقّعت شبكة One America News Network، المعروفة بتوجهاتها المحافظة ودعمها للرئيس دونالد ترامب، على الوثيقة، وفقاً لرئيسها تشارلز هيرينغ.

التداعيات المحتملة

ستكون لهذه القيود تداعيات فورية على تغطية الشأن العسكري، إذ يملك أكثر من مائة صحافي بطاقات اعتماد لتغطية أخبار البنتاغون، لكن عدد الحاضرين فعلياً يومياً أقل من ذلك بكثير، ما يعني أن عدد الصحافيين العاملين من داخل المبنى سينخفض حتماً في الأسابيع المقبلة. وبات من الواضح أن متطلبات إقرار "فهم سياسة غامضة" قد تُستخدم لاحقاً ذريعةً للقمع أو سحب الاعتماد من صحافيين يُقدّمون تقارير لا تتماشى مع ما يعتبره البنتاغون "مسموحاً به". وهذا يفتح الباب لتطبيق البند على تقديرٍ سياسي لا أمني فقط، ما يمسّ بالمبدأ الدستوري الذي يمنع الحكومة من تقييد الإعلام إلا بموجب مبررات دستورية محدّدة، وفق ما لفتت إليه منظمة بوينتر الإعلامية غير الربحية. ومن الناحية العملية، التوقيع على التعهّد يمكن أن يُعدّ قبولاً ضمنياً بأن الصحافي يقر بمنطوق المفهوم الأمني كما تفسّره السلطة، ما يُلزم الصحافيين بحدود إضافية لا تنعكس على الأخبار السرّية فقط، بل أيضاً على المعلومات العلنية التي قد ترى الإدارة أنها "غير مصرح بها". وإذا انخفض عدد الصحافيين المعتمدين في البنتاغون نتيجة رفض التوقيع أو سحب الاعتمادات، فستتراجع القدرة على مراقبة ما يجري داخل الوزارة، وتقليص ضغط الإعلام على الشفافية والمساءلة، خصوصاً في القضايا التي تثير الجدل حول توزيع الموارد العسكرية، والصفقات، والاستخدامات الخارجية للقوّة، أو الانتهاكات المحتملة. إذا نجحت هذه السياسة، فقد تُستخدم كنموذج في قطاعات أخرى (الداخلية، الاستخبارات، الأمن القومي) لفرض رقابة مشروطة على الإعلام داخل مرافق الدولة، باسم "الأمن الوطني".

هذه الأزمة تُعد فرصة لوسائل الإعلام لإعادة تأكيد دورها مراقباً مستقلاً، وليس مجرد ناقلٍ لرسائل السلطة. رفض التوقيع الجماعي يظهر أن الصحافة، أمام الضغوط المنهجية، يمكن أن تتوحد حول المبدأ. وتجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تدعم فيها وسائل إعلام محافظة زملاءها في المعركة من أجل حرية الصحافة؛ وقّعت "نيوزماكس" و"فوكس نيوز"، في فبراير/شباط الماضي، رسالةً موجهة إلى البيت الأبيض تطالب بإلغاء الحظر المفروض على مراسلي وكالة أسوشييتد برس. ومن المتوقع أن تلجأ وسائل الإعلام إلى خطوات قانونية، وربما يحكم القضاء في مدى دستورية هذه السياسة.

تأتي هذه القواعد الجديدة ضمن جهد أوسع لتشديد السيطرة على المعلومات الخارجة من البنتاغون. ففي مذكرة صدرت الشهر الماضي، رسّخ هيغسيث قيوداً على زمان ومكان وطبيعة تفاعل المسؤولين العسكريين مع الجمهور، مشيراً إلى أن الانخراطات السابقة كانت "تركّز على مؤسسات معينة دون غيرها". كما استبدلت وزارة الدفاع، في فبراير الماضي، مكاتب عدد من وسائل الإعلام التقليدية داخل البنتاغون بمؤسسات محافظة مثل "واشنطن إكزامينر" و"ديلي كولر" و"نيوزماكس"، ضمن نظام تناوب جديد. وأبلغت الوزارة مؤسسات مثل "إن بي آر" و"إن بي سي نيوز" و"بوليتيكو" و"سي أن أن" بوجوب إخلاء مكاتبها في "ممر المراسلين" داخل المبنى، رغم احتفاظها ببطاقاتها الصحافية.

المساهمون