استمع إلى الملخص
- تضررت الثقافة الفلسطينية بشكل كبير، حيث دُمرت مواقع دينية وتاريخية مهمة مثل كنيسة القديس برفيريوس والمسجد العمري الكبير، بالإضافة إلى تدمير الأرشيف المركزي لبلدية غزة.
- لم تقتصر الأضرار على المواقع التاريخية فقط، بل شملت أيضاً المراكز الثقافية والفنية، حيث دُمّر معظمها، مما يعكس محاولة القضاء على الثقافة الفلسطينية الحية والمعاصرة.
تحت وطأة أعداد الشهداء، والجرحى والمفقودين، وعلى وقع المشاهد والأخبار المأساوية التي تدفّقت من غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تتّخذ خسائر أخرى في القطاع مكاناً هامشياً، رغم فداحتها. نتكلّم هنا أساساً عن الخسائر الفنية والثقافية. فبالتوازي مع الإبادة الجماعية التي يمارسها ويقودها جيش الاحتلال الإسرائيلي، إبادة أخرى ثقافية، ستتكشّف مأساوية ملامحها تباعاً، بعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ يوم الأحد الماضي.
هي نكبة أخرى، تلك التي تعيشها غزة، ربما أكثر عنفاً من تلك التي عرفها الفلسطينيون عام 1948. نكبة تشكلت ملامحها طيلة 471 يوماً، مع مشاهد الخيام الغارقة، والأطفال مقطوعة الرؤوس، والأسرى الخارجين من المعتقلات حاملين شهادات لا يتحمّلها قلب ولا عقل عن التعذيب والعنف الجسدي والجنسي.
إلى جانب الخسائر البشرية غير المسبوقة، تُقدِّر الأمم المتحدة أن ثلثي المباني في غزة قد دُمرت. ومن خلال صور الأقمار الصناعية، وثقت المنظمة العالمية للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) تدمير مئات المواقع التراثية، التاريخية، والأثرية والثقافية. وكما حدث مع المدارس والمستشفيات، أصبحت هذه المواقع، خلال حرب الإبادة، هدفاً للجيش الإسرائيلي تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب".
يشير الباحثون إلى أن حجم الدمار يُظهر "إبادة حضرية"؛ وهو مصطلح يعبّر عن تدمير متعمد وممنهج للبنية التحتية المدنية بهدف القضاء على الروابط الاجتماعية والثقافية، ومسح ذاكرة المجتمع. كما أنّ القصف المكثف للمواقع التاريخية والدينية والفنية، الذي بدأ منذ اليوم الأول للعدوان، يطرح تساؤلات عميقة حول مفهوم "الإبادة الثقافية" وهو المصطلح الذي يشير إلى نية متعمدة لتقويض أسس البنية الثقافية لأي مجتمع.
وقد أعربت جنوب أفريقيا عن أهمية هذا المفهوم في القضية التي قدمتها إلى محكمة العدل الدولية بشأن "خطر الإبادة الجماعية" في غزة. استندت جنوب أفريقيا إلى اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة (1954)، التي تهدف إلى ضمان حماية التراث من التدمير أو الاستخدام العسكري. كما أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يُعرّف التدمير المتعمد للمباني التاريخية كجريمة حرب. ومع ذلك، فإن القانون الدولي فشل في منع إسرائيل من التمتع بحصانة في هذا المجال كما في مجالات أخرى.
وفقاً لتعريف رفائيل لمكين (1900 – 1959)، المحامي البولندي الذي ساهم في صياغة مصطلح الإبادة الجماعية ومبادرة اتفاقية الإبادة الجماعية، فإن تدمير الثقافة يُعد جزءاً من الإبادة الجماعية، وقد أطلق عليه بعض الباحثين مصطلح "الإبادة العرقية"، الذي ظهر في اللغة الفرنسية في السبعينيات ليشير إلى تدمير الثقافة والهوية العرقية لمجموعة ما.
منذ أكتوبر 2023، تأثرت الثقافة الفلسطينية والتراث التاريخي بالقصف الإسرائيلي بشكل مباشر. تعرضت المواقع الدينية، لا سيما في البلدة القديمة في غزة، إلى دمار شامل. ووفقًا للمرصد الأوروبي المتوسطي لحقوق الإنسان، دمّر الاحتلال 146 معلماً تاريخياً مهماً، إضافة إلى 114 مسجداً و200 موقع آخر تضرر بشكل جزئي.
وفي 18 أكتوبر 2023، تعرضت كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية، التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، لضربة جوية إسرائيلية استهدفت مستشفى الأهلي المجاور، أقدم مستشفى في غزة. بعد يومين فقط، استُهدفت الكنيسة مباشرة، ما أسفر عن مقتل 16 شخصًا وإصابة العشرات ممن لجأوا إليها.
وفي 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، دُمر مبنى الأرشيف المركزي لبلدية غزة، الذي احتوى على آلاف الوثائق التاريخية والوطنية التي تعود إلى أكثر من قرن. وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول 2023، استُهدفت أكبر وأقدم مساجد المنطقة، المسجد العمري الكبير، الذي بُني في القرن السابع الميلادي. دُمرت بنيته المميزة وزخارفه الفريدة من العصور المملوكية والعثمانية، كما انهار جزء كبير من مئذنته التي تعود إلى 1400 عام.
إضافة إلى ذلك، استهدفت المتاحف التاريخية، مثل متحف القصر "قصر الباشا"، الذي يضم مجموعة من القطع الأثرية التي تغطي فترات مختلفة من تاريخ غزة، والمتحف المعروف باسم "مطاف الفندق"، الذي يحتوي على آلاف القطع الأثرية من الفترات الكنعانية واليونانية.
كذلك يبقى أحد أبرز المواقع الأثرية التي تضررت بشدة هو موقع القديس هيلاريون في تل أم العمر، وهو أحد أقدم الأديرة المسيحية في المنطقة، والذي أُدرج على قائمة التراث العالمي في عام 2024. تقول الباحثة حنين العمسي، في تحقيق موسع عن الإبادة الثقافية في غزة مجلة Revue Du Crieur النصف سنوية الفرنسية: "المواقع الأثرية هي دليل مادي ملموس على حق الفلسطينيين في أرض فلسطين ووجودهم التاريخي فيها".
لكن لا تقتصر أهداف الاحتلال الإسرائيلي على القضاء على الماضي البعيد فحسب، بل تشمل جميع الأماكن الحيوية التي ترتبط بالثقافة. قبل حرب 2023، كان هناك 76 مركزاً ثقافياً في غزة، دمّر الاحتلال معظمها. واستهدفت الضربات الجوية الإسرائيلية مراكز مثل مركز رشاد الشوا الثقافي، ودمّرت المعارض الفنية القليلة في غزة، مثل معرض "التقاء" ومعرض "شبابيك"، اللذين كانا يشكلان موطناً للفنانين المحليين منذ تأسيسهما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ونتيجة هذا القصف دُمّر أكثر من 20 ألف عمل فني موجود في هذه المراكز. كذلك، تعرض المعهد الفرنسي في غزة، وهو المركز الثقافي الأجنبي الوحيد في المدينة، للقصف، وسرقت معداته.