الأغاني وحقوق ملكيّتها... أجزاء من الثانية في عهدة القاضي
استمع إلى الملخص
- النزاعات القضائية شائعة في عالم الموسيقى، حيث خاض فنانون مثل جورج مايكل وفرقة Led Zeppelin معارك قانونية لحماية إبداعاتهم من الاستغلال والاقتباس.
- مع تطور التكنولوجيا ودخول الذكاء الاصطناعي، تزداد التحديات القانونية تعقيداً، مما يتطلب وضع أطر قانونية جديدة لحماية حقوق الفنانين في هذا السياق المتغير.
خلف الإبداع والتألّق، وأحياناً الثراء والأبّهة، كما يُنظر من منظور العامة إلى حياة نجوم الغناء والموسيقى الجماهيرية، كانت هناك دوماً صراعات ضارية بينهم وبين ذويهم والقيّمين على إرثهم من جهة، وبين القوى المالية والإنتاجية التي استثمرت في إبداعاتهم من جهة مقابلة، تُخاض على مستويات عدّة. يبقى القضائي منها الأكثر تأثيراً في سيرهم الفنيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بالنزاع على حقوق الملكية الفكرية والإبداعية.
العديد من هؤلاء، ممّن تأسسوا نجوماً قبيل منتصف العمر، قد بدأوا مشوارهم صغاراً، سواء على صعيد أعمارهم أو منازلهم، ولم يكونوا قد كوّنوا بعد إدراكاً صحيحاً لكيفية حماية حقوقهم المادية والمعنوية، أو ربما لم يتوفّر لهم من يحميهم أو يوجّههم، أو لم تتوفّر لهم الإمكانات الماديّة اللازمة لتكليف محامين ومرافعين يتولون إدارة شؤونهم القانونية. وإنما كان كلّ ما دفعهم في تلك المرحلة المبكرة هو شغفهم بالفن، ورغبتهم الجامحة في تحقيق التفوّق والشهرة.
ذلك ما يُفسّر الفرحة العارمة التي انتابت تايلور سويفت، إحدى أنجح نجمات الغناء في تاريخ الصناعة الموسيقية، بعدما استعادت كامل حقوقها بملكية ألبوماتها الأولى من أحد حيتان الصناعة الموسيقية سكوتر براون، إذ كان قد استحوذ في وقت سابق على الشركة التي أشرفت على كل ما أنتجته الفتاة في أول مشوارها، وباعها إلى شركات أخرى، ليحرمها من سبل التصرّف بها والتمتع بجزء من عوائدها، ما أجبرها في وقت لاحق على إعادة تسجيل أربعة منها، لتعود ملكيّتها الحصرية إليها وحدها.
معركة شبيهة خاضها الراحل جورج مايكل (1963 - 2016)، سنة 1990 مع شركة سوني العملاقة للإنتاج الموسيقي والسينمائي، فاتّهمها بالاستغلال وسوء المعاملة، وأنه، بحسب تعبيره، لم يكن يشعر بأنه بالنسبة إليها "سوى قطعة سوفت وير". إلا أن سوني في نهاية المطاف ربحت الدعوى، إثر صدور الحكم بعدم وجود دليل على سوء معاملتها للفنان. إثر ذلك، توقّف صاحب Careless Whispers عن النشاط الفني لمدة خمس سنوات، وقد ألقت الخسارة بظلالها الثقيلة حتى رحيله، ما دفعه إلى أن يُسرّ بندمه على رفع الدعوى، وذلك وفق وثائقي أنتجته قناة Channel 4 سنة 2017.
نزاعات من نوعٍ آخر ظلّت في عهدة القاضي، خاضها الفنانون مرّات ضد الصناعة الفنية، ومرّات في ما بينهم، وهي الاتهامات بالاقتباس؛ إذ كثيراً ما تتشابه بعض الألحان أو العيّنات الصوتية بين الأغاني المختلفة، الأمر الذي يثير الشكوك حول ما إذا كانت تلك محض صدفة إبداعية، أم سرقة عن عمد.
مثلاً، هناك أغنية Stairway to Heaven (معراج إلى السماء)، لفرقة الروك البريطانية Led Zeppelin، التي لا تزال إلى اليوم تبعث على الحنين، خصوصاً لدى جيل السبعينيات، وتُعد من بين أكثر أغاني تلك المرحلة رومانسية ضمن فئة الروك بالاد، جمعت بسلاسة استثنائية بين حميمية الموسيقى الأكوستيّة، في مقدّمتها المؤداة بواسطة الغيتار الكلاسيكي المتأثر بالفولكلور الكلتي لمنطقة شمال غربي أوروبا، وبين التسخين الشعوري على طراز الهارد روك، لحظة انتقالها إلى الإلكتريك غيتار وطبول الدرامز.
لكن لا يعلم كثيرون أن خلف الشعريّة الوادعة والعاطفة الآسرة التي جعلت من Stairway to Heaven إرثاً دائماً للفرقة، ثمة معارك قضائيّة شرسة حول حقوق الملكية، اندلعت منذ سنة 2014 جرّاء الخلاف حول المقدمة الموسيقية على آلة الغيتار، التي لا تتجاوز العشرين نغمة، ومع ذلك تُعتبر من أبرز ما يُميّزها فور صدورها عن مذياع أو مُدير للأقراص، ويمنحها طابعها الصوتي الخاص.
فقد زعم أحد القيّمين على الملكية الفكرية لأعمال راندي وولف، عازف الغيتار في فرقة Spirit، أن المقدمة جرى اقتباسها من تراك سجّله الأخير ضمن ألبوم للفرقة بعنوان Taurus سنة 1968. إلا أن القضية حُسمت سنة 2020 لصالح Led Zeppelin، ما سبّب هزّة داخل الأوساط الموسيقية والصحافية، واعتُبر دليلاً على جبروت الشركات الإنتاجيّة الكبرى، التي اقتضت مصالحها أن تقف إلى جانب واحدة من أعظم فرق الروك في كل الأزمنة، ما حدا بمحامي الادعاء إلى اتهامهم بأنهم "أعظم سارقي الألحان في كل الأزمنة".
ثمة دعوى مماثلة في قضية تعدٍّ على حقوق الملكية رُفعت ضد مغنية البوب مادونا سنة 2016، إثر الاشتباه باستخدامها عيّنة صوتيّة مقتطفة من أغنية بعنوان Love Break لفرقة الجاز كبيرة الحجم Salsoul Orchestra، في أغنيتها الضاربة Vogue، التي حققت مبيعات فاقت ثلاثة ملايين نسخة (Triple Platinum). وقد حكمت المحكمة، هذه المرة أيضاً، لصالح النجمة الكبيرة والشركات الإنتاجية العملاقة من ورائها: بألا سبيل للمستمع العادي أن يُميّز السرقة الصوتية المزعومة، إذ لم تتجاوز مدّة العيّنة 0.23 ثانية، ولا سيّما أنها قد رُكّبت ضمن نسيج موسيقي إلكتروني غني بالإضافات والمعالجات.
يدخل كل ذلك في صلب السجال الذي أخذ يحتدم أخيراً مع دخول التطبيقات الموسيقية المحتملة للذكاء الاصطناعي على الخط. فقد نشرت صحيفة WSJ في مطلع الشهر الحالي معلومات عن مفاوضات جارية بين شركات الصناعة الموسيقية وروّاد الأعمال في مجال تطوير الذكاء الاصطناعي، من أبرزها شركتا Suno وUdio، اللتان توفران خدمة توليد المادة السمعية آلياً، سواء كانت أغنية أم مقطوعة موسيقية.
تأتي تلك المفاوضات في ضوء دعاوى قضائية رفعتها ضد صُنّاع التقانة الرفيعة وكالة RIAA الأميركية، الممثلة لمصالح نجوم الموسيقى الجماهيرية وشركات إنتاجهم، وتهدف إلى إحداث أطر قانونية ومالية لتعويض الفنانين الجماهيريين من ذوي البصمة الصوتية المعروفة ووكلائهم، في حال استخدمتها النماذج اللغوية الكبرى (LLM) في إنتاج مواد سمعية مولّدة صناعياً. الأمر الذي سيستدعي من الفنان إعادة قراءة المشهد الفنّي من خلال التغيّرات الراهنة، وإبداء القدرة على التكيّف إزاءه، ليس على صعيد الخيارات الإبداعية وإنما العملية أيضاً، الحقوقية والاقتصادية.