"الأشياء التي تقتلها" لعلي رضا خاتمي: عناصر خيالية في سرد واقعي
استمع إلى الملخص
- دخول شخصية رضا يضيف تعقيدًا وغموضًا، حيث يمثل الأنا الأخرى لعلي، مما يخلق صراعًا داخليًا يعكس تأثير السلطة الأبوية عليه.
- الفيلم يعكس تأثير السلطة الذكورية من خلال دراما نفسية، حيث تتشابك الشخصيات في سرد معقد، مع التركيز على الأماكن المغلقة والمناظر الطبيعية للتعبير عن الرغبة في الحرية.
علي رضا خاتمي (Alireza Khatami) مخرج إيراني أميركي، يعيش في كندا، وأنجز فيلماً تركياً. رغب في تصوير حكاية إيرانية، لكنّ الرقابة هناك اعترضت على السيناريو. قتل الأبّ، مثلاً. لا يهمّ إنْ كان القتل معنوياً أو تخييلياً أو واقعياً. إنّه لا يعجبهم، ويريدون من خاتمي إزالته. بعض النقاشات بين الطرفين طريفٌ في عبثيته، فحضر في إحدى قصص "آيات أرضية" (2023)، الذي أخرجه مع علي عسكري. بعد تمسّكه بقتل الأبّ، ويأسه من تصوير "الأشياء التي تقتلها" (The Things You Kill) في إيران، قرّر تغيير مكان أحداث فيلمه الثالث، فاختار تركيا.
يُفتتح الفيلم (2025) بحلمٍ، وينتهي بكابوس. هزار (هزار إيرغوتشلو) تروي مناماً غريباً لزوجها علي (أكين كوتش)، يتعلّق بوالده. من اللحظات الأولى، ورغم الأجواء الكابوسية للحلم، يعلن الفيلم عن هوية يتبدّى زيفها لاحقاً. إنْ شَابَ هذه المَشاهد شيء من خيال، وأحاط بها غموض، فهذا تعبيرٌ عن حلمٍ، تسير بعده الحياة بين الشخصيات على منوالها، ويسير معها المُشاهد، حتى ثلث المدّة تقريباً (153 دقيقة)، مُطمئناً إلى حكاية بسيطة، رغم أسلوب سردي يهتمّ، على نحو مبالغ به، بتفاصيلَ نفسية، لا تحيط الشخصية الرئيسية فحسب.
علي مترجم يحبّ زوجته. عاد توّاً من أميركا، بعد سنوات دراسة طويلة، واستقرّ في تركيا. يجتاز فترة صعبة في حياته، تحرّكها علاقة معقّدة مع أبيه، لا تخلو من كراهية، أقلّه من طرفه. يرى أنّ عائلته (أمّه وشقيقتاه) تعيش في جحيم، تحت نير والده. لذا؛ عندما تُوفّيت والدته المريضة في ظروف غامضة، يشتبه بوالده. في الوقت نفسه، يخفي عن زوجته تحاليل تُفيد عدم قدرته على الإنجاب. تصله إشاعات عن طرده قريباً من تدريس الترجمة.
لكنّ الحياة اليومية تسير، وإن مع تعقيدات نفسية، تتكشّف تدريجياً، وأخذت تتسارع مع ظهور رضا (أركان كوستنديل) في حياة علي. رضا متسلّل غريب، يعيش متنقلاً بحرية. ومقابل إيوائه في مزرعة علي، خارج المدينة، يقبل الاعتناء بالمزروعات. بدخول رضا في الأحداث، يتّخذ الفيلم منحى مغايراً، فيتفكّك خطّ السرد إلى خطوط ضبابية، تخلق بلبلة وتوتراً يقلقان راحةَ متابَعةٍ، بدت سهلة وممتعة.
تبدأ رحلة متاهة، بعد أن بات رضا عليّاً (المخرج يُدعى علي رضا، فهل هناك دلالة أكثر من هذه على ذاتية الفيلم؟). احتلّ دوره في الحياة ومع الشخصيات، من دون أنْ يفرّق أحد بينهما (رغم اختلاف الشكل). كأنّه النظير، الأنا الأخرى الشريرة، المختبئة في الكائن، الذي يُسمح لها بالتجلّي بين وقت وآخر، وأخذ دور يمكنه السيطرة على كل الأدوار. يتعارك النظيران معنوياً وجسدياً، بل يحبس أحدهما الآخر لينطلق هو. مع إدماج عناصر خيالية في سرد يبدو واقعياً، يتحوّل الفيلم إلى إثارة نفسية مُعقّدة سوداء، تُذكّر بـ"مولهولاند درايف" (2001) لديفيد لينش. لكنّ المخرج يترفّق أحياناً بمشاهده، ويمنح إشارات تساهم في إدراك بعض ما يحصل، فتظهر خبايا الشخصيات (الأب وحبيبته، الأختان، علي وزوجته) وأوجاعها وصدماتها، وكيف تُطوّر كل منها طريقتها في النجاة من مشاكلها وعقدها. مع هذا، أربك مشاهده، وبقيت تساؤلات، مُنْهِية معها كل مشاهدة مريحة، لا سيّما بعد سلاسة أحداث القسم الأول.
في الصراع الرئيسي الذي يعيشه علي مع أبيه (يسعى إلى قتله) وزوجته، يركّز "الأشياء التي تقتلها" على اللامحكيّ، وكيفية سعي الأفراد إلى تجنّب الاعتراف بالحقيقة لحماية الذات، واتّخاذ الهروب وسيلةَ نجاة من أشياء تنخر الأعماق وتقتل النفس. في حربه مع السلطة الأبوية، للتخلّص من عقده المتأتية من علاقته الشائكة والعنيفة مع الأب، ومن خشيته أنْ يُصبح نسخة من أبيه، يكتشف علي أنّ مفاهيمه، التي حاول إقناع نفسه بخلاصه منها في الغربة، مُتجذّرة ومُؤثّرة في كل أفعاله. وبينما يقوده صراعه مع الأب، واتهامه بقتل الأم (من دون دليل)، إلى الانغماس أكثر فأكثر في دوامة العنف الناشئ عليه بسببه، يكون طريق الشفاء عبر الزوجة. ومع أنّ خاتمي لا يبدو رفيقاً بالنساء، ولا يعطيهنّ الدور الإيجابي بالكامل (لحسن حظّ الفيلم)، فلهنّ زواياهنّ المظلمة كذلك، التي تتبدّى من شجار أخته معه، ونعت أمّه لزوجته الطبيبة البيطرية بـ"طبيبة الأبقار"، رغم احتجاجه الدائم.
يصوّر خاتمي تأثير السلطة الذكورية على الرجال أيضاً، في دراما نفسية متوتّرة، ويفلح في ربط خيوطها المتشابكة بإحكام، لكن ليس من دون مبالغة، ومع كثير من استعارات ورموز تُفقد السرد حيويته، وتؤثّر على إيقاعه. في فيلمٍ لا يلجأ إلى الموسيقى التصويرية، تؤدّي الشخصيات دوراً كبيراً في منحه جاذبية، لما تتمتع به من رسم واقعي بتناقضاتها وتبايناتها. أوّلها علي، الذي يبدو عنيداً وصعباً، ومُعقداً تارة وحنوناً ومُحباً تارة أخرى (مع الأم والزوجة)، كما يمثل المكان إضافة مهمة في التصوير المتكرّر في الداخل، إذ يمنح التركيز على النوافذ والمرايا والجدران المتقاربة إحساساً هائلاً بالاختناق، وتعبيراً عن شخصيات منغلقة على نفسها وأسرارها، مع استخدام المناظر الطبيعية (المزرعة) للتعبير عن سعي إلى الحرية والانطلاق، تخلّصاً من عبء الماضي وتراكماته.
في هذا الفيلم الذاتيّ، مُتعدّد الطبقات، لا اختيارات عشوائية. هناك إشارات تدلّ على مدى ارتباطه بالسيرة الذاتية لصانعه، بدءاً من اسم الشخصية الرئيسية (علي ونظيره رضا)، وعملها (ترجمة أفكارها ومفاهيمها الجديدة على البلد الأم)، وبحث علي مع طلابه عن جذر الكلمة العربية رجم (خاتمي من أصول عربية إيرانية)، التي تعني القتل (قتل الأب رمزياً).