استمع إلى الملخص
- أصبحت الولايات المتحدة ملاذاً آمناً للفنانين الأوروبيين بسبب الاضطرابات في أوروبا، مما أتاح لسترافينسكي فرصة للاستقرار المهني والشخصي، حيث استقر في نيويورك ولوس أنجليس وأصبح جزءاً من المشهد الفني الأمريكي.
- في "الحقبة الأمريكية"، استلهم سترافينسكي من الموسيقى الباروكية الأوروبية، كما يظهر في عمله "بلوط دمبارتون"، الذي يعكس توازنًا بين الوحدة والتنوع، ويُعتبر تعبيرًا عن الكون والخليقة.
"أيّ طاقةٍ تلك التي يضجّ بها بلدكم الشاسع؟ ستقودني ناطحات سحابكم إلى رؤى جديدة إزاء الفن". بتلك الكلمات، عبّر أحد أبرز روّاد الحداثة في الموسيقى، المؤلف الروسي إيغور سترافينسكي (1882 - 1971) عن دهشته إعجاباً بالحلّة العصريّة التي عاينها، عندما زار الولايات المتحدة لأول مرّة في مثل هذا الشهر منذ 100 عام، سنة 1925.
شملت جولته الموسيقية الأميركية حينها مدناً عدّة، على رأسها نيويورك وشيكاغو. وتضمّن برنامج الحفلات التي دُعيَ إلى إحيائها مجموعة مقطوعات من تأليفه، قدّمها بنفسه إما عازفاً على البيانو، وإما قائداً لفرقة نيويورك الفلهارمونية، كان من بينها العمل الأشهر له، "طائر النار" (Firebird)، وقد استمر البرنامج لعدّة حفلات على مدى أيام متتالية.
على الرغم من أن الأميركيتين ليستا بمعزل عما كان يجري من أحداث جسامٍ على الضفة الشرقية للأطلسي في الربع الثاني من القرن العشرين، إلا أنهما ظلّتا بفضل عامل الجغرافيا بمنأى عن نار الاضطرابات التي اشتعلت في القارة الأوروبية وطاولت جميع مظاهر الحياة.
فيما لم يزل الأوروبيون، ومنهم المثقفون والأدباء والفنانون، يعانون من وطأة الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، فضلاً عن اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، مكان ولادة سترافينسكي، وما تلاهما من صعوبات اقتصادية خانقة وتحوّلات سياسية كبرى، ليبدو الأفق كما لو أنه يضيق باطراد، وينذر بحرب أخرى قادمة.
جعل الوضع من الولايات المتحدة ليس فقط منصّة لتمويل وعرض أعمالهم الفنية، بل ملاذاً شخصياً آمناً لهم؛ مادياً ومهنياً. انطبق ذلك على إيغور سترافينسكي، ولا سيما بين عامي 1938 و1939؛ إذ كان يمرّ بعدّة أزمات متلاحقة؛ أولها تمثّل في رحيل كل من والدته وابنته، ومن ثم زوجته، خلال مدة لم تتجاوز ستة أشهر.
تزامن هذا مع تردّي حالته المعيشية، إذ ظل الروسي المنفي في فرنسا، عقب الثورة في روسيا، يعتمد في مدخوله على ألمانيا، البلد الذي ساد فيه طوال عشرينيات القرن العشرين، زمن ما يعرف بحكم "جمهورية فايمر"، مناخٌ ليبراليٌّ منفتحٌ على تيارات الحداثة الغربية في الفكر والفن. ثم تبدّل الوضع كليّاً مع مجيء القوميين الاشتراكيين إلى الحكم، الذين نظروا إلى الفن الطليعي بوصفه نقوصاً بشريّاً وتراجعاً عن القيم الجماليّة السامية، وعليه امتنعوا عن دعمه، واستهدفوا رموزه بالملاحقات والمضايقات.
أمام سوء الحال الأوروبيّة وانعقاد الآمال على الطوباويّة الأميركيّة، شدّ إيغور سترافينسكي الرحال، ليقيم أولاً في مدينة نيويورك، حيث عُيِّن مُدرساً جامعياً في "هارفرد"، وأصبح محظيّاً فنيّاً لدى الممثل الأميركي المعروف في وقته، إدوارد روبنسون، الذي ما إن فتح الأخير له أبواب هوليوود، حاضرة الصناعة السينمائية، حتى غدا، في غضون سنوات قليلة، من بين مشاهيرها، لينتقل إلى العيش في مدينة لوس أنجليس. وبينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سنة 1945، مُنح الجنسية الأميركية.
ابتدأ إيغور سترافينسكي عطاءه الموسيقي إبان الفترة التي سمّاها النقاد "الحقبة الأميركية" بمقطوعة كان قد كَلّفه تأليفها أحد رعاة الفن الكبار في الولايات المتحدة، روبرت وود بليس، وذلك بمناسبة ذكرى زواجه الثلاثين. لذا، سُمّي العمل باسم دار العائلة في العاصمة واشنطن، "بلوط دمبارتون" (Dumbarton Oaks).
إلا أن إيغور سترافينسكي لم يستلهم ناطحات السحاب الشاهقة في نيويورك، بل حديقة دار بليس في واشنطن بعد أن زارها لأول مرة، فلجأ إلى مَفْهَمة المقطوعة (Conceptualising) بحسب تقليدٍ موسيقيٍّ يرجع إلى عصر الباروك زمن القرن السابع عشر، إذّاك كانت الموسيقى في أوروبا تُكتب بتكليف البلاط، وتُؤدّى في القصور بمرافقها الداخلية والخارجية، ولكثرة ما استوحت في بُناها وثيماتها اللحنية والإيقاعيّة من جماليّات العمارة وتصميم الحدائق.
هكذا، اتّجه إيغور سترافينسكي إلى واحدة من أشهر وأحسن مؤلّفات القصور عبر العصور، ألا وهي سلسلة كونشرتو براندنبورغ (Brandenburgischen Konzerte) لعَلَم عصر الباروك الألماني يوهان سباستيان باخ (1685 - 1750) التي قدّمها إلى أحد النبلاء البروسيين سنة 1721، واليوم تُعدّ السلسلة المؤلفة من ستة كونشرتات لأوركسترا حجرة، من بين أكثر مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية شعبية.
وكان إيغور سترافينسكي قد أفصح عن تعمّده اقتباساتٍ مباشرة، تحديداً عن الكونشرتو ذي التصنيف الثالث من بين سلسلة باخ، حتى إن بعض النقاد باتوا يشيرون إلى أن "بلّوط دمبارتون" بمثابة "كونشرتو براندنبورغ السابع".
لدى الاستماع المقارن إلى كلا العملين، كونشرتو باخ وسترافينسكي، يتبادر إلى الأذن بوضوح تشابه الديناميكية الفيضيّة التي تتولّد بموجبها الثيمات اللحنية قصيرة الآماد الزمنيّة. بالمقابل، تعمّ المشهد الصوتي في كلّ حيّز منه نغمة واحدة عارمة، جامعة وموحِّدة هي نغمة القرار، ما يتناهى محاكاةً سمعية لحال الطرب البصريّة الناجمة عن الفُرجة وسط حديقةٍ غنّاء، بحركة وتنوّع عناصرها، وفي الوقت نفسه وحدة وثبات الهندسة العامة للفضاء الذي تُزيّنه، أو عند النظر إلى نافورة تتوسّط بركة، تتدفّق منها الزخّات أنماطاً زخرفيّةً في الهواء، لتتساقط في آخر المطاف وتتّحد بسطح الماء.
في الإمكان، في الوقت نفسه، تأوّلُ باطنٍ صوفيٍّ (Mystical) لظاهر تلك التجربة الحسيّة، ليس غريباً بالضرورة عن باخ وسترافينسكي، على فارق الحقبة الزمنية والقبّة الإبستيميّة (المعرفيّة) التي عاشا في ظلّها. أي نعم تمّت المقطوعتان بتكليف من رعاة أثرياء لأغراض دنيوية احتفالية، إلا أن باخ الذي تكوّن روحيّاً ليس في القصر، بل في الكنيسة، وسترافينسكي الذي أسرته العوالم الغيبيّة لما قبل الحداثة، سواء في التقليد الأورثوذكسي الروسي أو القروسطي الغربي، فضلاً عن إنجازه "بلوط دمبارتون"، بينما كان يجالس ابنته وهي على فراش الموت، قد يجعل للحديقة ههنا، بديناميكيّتها الفيضيّة، وتناغم الوحدة والكثرة فيها، رمزيّة روحيّة خاصة ونمطاً بِدئيّاً (Archetype) يتجاوز القصر والمزرعة وناطحات السحاب، ليُعبّر عن الكون والخليقة.