إلفيس بريسلي... منذ أن كتب أحدهم رسالة قبيل انتحاره

12 يناير 2025
غدت الطريقة الفريدة التي ابتكرها في الرقص بصمته الخاصة الخالدة (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أحدث إلفيس بريسلي ثورة في مفهوم الشهرة الفنية، متجاوزًا حدود الأغاني والأفلام ليصبح ظاهرة جماهيرية ورمزًا ثقافيًا مؤثرًا.
- توقيع إلفيس عقدًا مع شركة RCA وإطلاقه لأغنية "Heartbreak Hotel" وظهوره التلفزيوني عززوا شهرته، رغم الجدل حول حركاته الراقصة الجريئة.
- التحاق إلفيس بالجيش الأميركي كان نقطة تحول، حيث رفض الامتيازات الخاصة، مما عزز مكانته كقدوة وطنية رغم تراجع نجوميته الفنية.

لئن تسنّى لأعلام الفنون الأدائية حتى منتصف القرن العشرين التألّق عالياً في سماء الشهرة في مختلف الميادين، من غناء وتمثيل ورقص، فإن أحداً لم يسبق له أن صار أسطورةً جماهيرية كما هي حال مُغنّي الروك آند رول الأميركي إلفيس بريسلي (1935 - 1977) الذي تمر هذا الشهر ذكرى ميلاده التسعين.  

قد غيّر الشاب ذو العينين الحالمتين والشعر الأملس الأسود الداكن، كلّاً من مظهر ومعنى ومآل الشهرة التي يحظى بها الفنان بمقتضى مشواره الفنّي، حتى بلغت من بعده درجة غير مسبوقة، ليس في سعتها فحسب، بل في تأثيرها بالجماهير وتحريكها للرأي العام وصنعها للذائقة الشعبية، فضلاً عن وزرها وتبعاتها عليه باعتباره إنساناً. 

لم تعد الشهرة بعد إلفيس بريسلي صنيعةَ أغنيةٍ أدّاها فنّان فأحبها الناس، أو فيلماً فاز مُمثّلٌ فيه بدور البطولة، فلاقى على إثره نجاحاً كاسحاً، بل أخذت تكتسب دفعاً ذاتيّاً من اسم النجم وشخصيّته، وحتى مظهره ومسلكه، لا بل إنه بات يتجاوز بها مؤسّسات الصناعة الفنية التي طالما هيمنت في السابق عليه وعلى كلّ المشتغلين بحقول الترفيه، مهما برز وتصدّر المشهد، حتى أصبح شخصُ النجم محضَ علامةٍ تجاريةٍ، وقوّة مؤثّرة، أشبه بمؤسسة مستقلة بذاتها. 

ثمة محطّاتٌ مفصلية ساهمت في تكوين وبلورة الأسطورة الأكثر تألّقاً في تاريخ فنون الأداء، بصورة لم تجارِها في زمنه ربما سوى مغنيّة الأوبرا ماريا كالاس (1923 - 1977) ومن بعده مايكل جاكسون (1958 - 2009) وفي الوقت الراهن النجمة تايلور سويفت، ليبقى إلفيس المثال على أسطرة الفنان وتحويله إلى ظاهرة كونيّة، تجعل من "الفانز"، أي معجباته ومعجيه، يلتفّون حوله بما يشبه جماعة تُمارس بإزائه عبادة الفرد.

لعلّ أهم تلك المحطات، انضواؤه تحت الشركة الأميركية العملاقة لإنتاج التسجيلات RCA، التي على الرغم من إبدائها تردداً حيال تبنّي مغنٍّ صغير السن، لم يحوِ سجلّه في حينه سوى عشر أغانٍ، فقد سارعت إثر تنامٍ ملحوظٍ في شهرته منتصف خمسينيات القرن الماضي، إلى منحه عقداً سبقاً، بقيمة تعادل في ميزان اليوم 300 ألف دولار، كان الأضخم من نوعه في مجال الأغنية الجماهيرية. 

بموجب العقد، سُجِّلت أغنية مفردة لإلفيس بعنوان Heartbreak Hotel، كان لمدير أعماله، كولونيل توم باركر، دورٌ خلاقٌ، سواء في انتزاع العقد من "آر سي إيه"، أو من خلال إيجاده ثيمة جذّابة للأغنية، ذات طابعٍ ميلانكوليٍّ، لم تبتعد عن الثيمات التقليدية للون غناء الكونتري، فاستندت كلماتها إلى رسالة كتبها أحدهم قُبيل إقدامه على الانتحار. هكذا، وفور صدورها، تربّعت على رأس قائمة بيلبورد، وعليه تحوّل إلفيس بين يوم وليلة من مغنّي بلوز، إلى مغنّي بوب، ما زاد من جمهوره، وصعد به أولى الدرجات نحو شهرة تجاوزت اللون الفني الذي نشأ وتكون فيه هو ومحبّوه. 

تمثّلت المحطة الثانية في اقتحامه عالم الشاشة الصغيرة عبر شبكة الراديو والتلفزيون الأميركية (CBS) واسعة الانتشار. اقتحامٌ نُظر إليه آنذاك على أنه بمثابة تدنيسٍ لوسيطٍ إعلامي جماهيري، بات يحلُّ في كل بيت، لتجلس حوله الأسرة بصغارها وكبارها. في زمن لم تزل فيه القيم المُحافظة تطبع جلّ المجتمع الأميركي، كانت الطريقة الفريدة التي ابتكرها في الرقص، بخفق فخذيه وثَني رُكبتيه، بينما يبقى مُمسكاً بغيتاره أو متشبّثاً بالميكروفون، والتي ستغدو لاحقاً بصمته الخاصة الخالدة، قد أثارت في حينها استهجاناً، سواء لدى العامة أو الخاصة من النقاد، وحتى العاملين في القناة، لإيحاءاتها الشهوانية غير المعهودة على التلفزيون.

إلا أن تلك النزعة الثورية لدى الشاب الوسيم، وضربه عرضَ الحائط بحدود المقبول به بإبّان عصره، قد وجدت لها أصداءً غير متوقعة لدى جيلٍ جديد تحرّريٍّ صاعدٍ، عازمٍ بدوره على كسر المحرّمات والخروج على القيم الاجتماعية للجيل الذي سبق. أدّت ظهورات إلفيس بريلسي التلفزيونية إلى أن ساهمت بدفعة قويٍّة، شهدتها أرقام مبيعاته من الأسطوانات، حتى إن إيد سوليفان، مُقدّم أحد أكثر البرامج الاستعراضية متابعةً على CBS، عاد لاستضافته خلال ثلاثة عروض متتالية، بعد أن اشترطت عليه إدارة الشبكة أن تُمنَع الكاميرات من تصوير الجزء الأسفل من جسم إلفيس وهو يرقص.

لعل المحطة التالية والأهم في أسطرة النجم لم تكن فنيّة تجاريّة، لا بالمعنى الموسيقي والغنائي، ولا في إطار الصناعة الترفيهية، بل كانت خطوة "علاقات عامة" بارعة، تمثّلت بالضرب على وتر الانتماء الوطني، وذلك لما استُدعي بريلسي إلى الخدمة العسكرية وهو في ذروة تألّقه وشهرته، ليلتحق بصفوف الجيش الأميركي في 25 مارس/آذار سنة 1958.

حينها، أصرّ مدير أعماله باركر بدهاء شديد ورؤية بعيدة المدى، على ألا يقبل موكّله أيّاً من عروض الامتيازات التي قدمتها إليه المؤسسة العسكرية بمنحه معاملة مرفّهة بصفته فنّاناً شهيراً، بل أن يخوض غمار الحياة العسكرية كاملة كأيٍّ من أبناء الشعب.

كانت هذه الخطوة على حضوره في الفضاء العام بالغة الأثر، فأصبحت اللقطة التي ظهر فيها الجندي إلفيس بريسلي على مقعد الحلاقة، بعد أن اجتُثّ شعره الطويل، صورةً فوتوغرافية أيقونية، ودعاية وطنيّة قيّمة فيما كانت الإمبراطورية الأميركية تحشد قوّاتها لأجل خوض حربٍ على أرض فيتنام، ستكون مُكلفة، وستدمغ الثقافة والمجتمع الأميركي لأجيال عديدة قادمة. 

المفارقة أن اعتبر النقاد خطوة دخول إلفيس بريسلي الجيش بداية النهاية لمشواره الفني نجماً ساطعاً في سماء موسيقى الروك آند رول. بالمقابل، فقد حولّته الخطوة في نظر الأميركيين إلى قدوة جماهيرية، تماهت العامة معها، فشعرت بقربها منها، وباتت تلمس في محطّات سيرته الذاتية والفنيّة رحلة ملحميّة أخذته من موسيقيٍّ مغمور إلى نجم مشهور، ثم من ثائر ماجن، إلى وطنيٍّ ملتزم، ليؤسطَر في الوعي الجمعي، لا أيقونةً، بل بطلاً شعبياً.

المساهمون