إعلام لبنان بين انفجارين ومنشأة: رواية "الصدفة"

إعلام لبنان بين انفجارين ومنشأة: رواية "الصدفة"

03 أكتوبر 2020
خلال جولة إعلاميّة نظّمها حزب الله في الجناح على عجل الثلاثاء (حسام شبارو/الأناضول)
+ الخط -

ليس لدى اللبنانيين، حتى الآن، أي تصور جدّي عما حدث مساء الرابع من أغسطس/ آب في المرفأ. حتى بعد ما قيل إنه "تبني" رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، انفجار المرفأ، عبر تحذيره من انفجارات "مشابهة" في مناطق سكنية ببيروت، مثل الجناح والأوزاعي. فاللبنانيون ليس لديهم سوى الانتظار، ومشاهدة مسلسل الإنكار. 
يعرفون أن انفجاراً كبيراً وقع في أوائل أغسطس/ آب. يتذكّرون الزجاج المنثور على الطرقات وفي الشاشات عند السادسة مساءً. سمعوا دويّاً كبيراً، وعرفوا أن ثمة "مواد خطيرة" انفجرت. لملموا الأشلاء بأيديهم، وبعد شهر، تذكروا وجود أنقاض، وقلوب وحيدة تحتها. تدفقت الصناديق الكرتونية، كمساعدات لبلد يتسوّل مباشرةً على الهواء. بدا الأمر أشبه باعتراف عالمي بحجم الانفجار. بدت بيروت من فوق أشبه بحفرة كبيرة مغطّاة بالرماد. شيئاً فشيئاً، هيمنت سردية "الإهمال"، وتعزّزت احتمالات "الصدفة". 
وفي الميديا، ظلّ الهواء "المحلي" على الشاشات مجانياً لأسبوعين، ومفتوحاً طوال الوقت، لمن يشاء، وكيفما يشاء، قبل أن يحلّ الملل، ويتعب الجميع من مشاهدة أضرار "الأمونيوم" المجهول. لكن تصريح نتنياهو الخبيث، يوم الثلاثاء الماضي، أعاد الحديث عن "احتمالات"، وعن أسئلة محقة عن الخوف والأبرياء والأخلاق.

في الميديا، ظلّ الهواء "المحلي" على الشاشات مجانياً لأسبوعين، ومفتوحاً طوال الوقت، لمن يشاء، وكيفما يشاء

في الإعلام، وباستثناء بعض التحقيقات الصحافية ليس لدى "الرأي العام" أي قصة واضحة، أو محاولة للبحث عن قصة، مثل تلك القصص التي ظهرت في بعض الصحف العالمية. وإن كان الحديث عن "رأي عام" في بلاد لا تستوفي الحد الأدنى من الشروط الديمقراطية أمراً مبالغاً فيه، فلا بد من الإشارة إلى أن الإعلام المحلي نفسه، بشكل عام، تعب من التغطية، ورضخ لشروط النخبة الحاكمة التي فرضت مشهداً جديداً فوق الركام. ليس مهماً أن يعرف الناس ما الذي حدث، الحزن يجب أن يكون كافياً لهم. 
قبل تصريح نتنياهو، كان الانفجار قد تكرّر، في بلدة عين قانا (جنوب لبنان)، لكنه كان أقل صخباً من المرفأ بكثير. انهار مبنى مؤلف من ثلاث طبقات: تسرّبت سحب من الدخان، وهرعت سيارات الإسعاف إلى المكان. أليس هذا ما يقوله المراسلون التلفزيونيون؟ تماماً، هذا ما يقوله المراسلون. هذا ما استطاعت وسائل الإعلام الحديث عنه في "بداية" متابعتها للحدث.

تدريجياً، صارت تغطية الانفجار بطريقة مهنية أو شبه مهنية، مستحيلة، كالعادة، وحلّ مكانها الغموض. ذلك النوع الغريب من الغموض الذي لا يفسّر إلا بكونه انعكاساً للرغبة بتأكيد خروج الحيّز الجغرافي من الواقع، وانتمائه إلى تصنيفات أخرى. مجدداً، هيمنت السردية ذاتها. مخلفات، إهمال، أخطاء. لحظة تخلٍ في درجتها القصوى عن "المؤامرة"، لمصلحة "الصدفة".
وحول السردية المهيمنة تنبت تفاصيل طفيلية. هنا، في الإعلام المحلي اللبناني، تُستَخدم ــ لأسباب لا نفهمها ــ مفردة "منطقته" (للإشارة إلى حزب الله)، أو "المنطقة"، عند الحديث عن الجنوب اللبناني، أو الضاحية الجنوبية لبيروت، كما لو أن الإعلام يستسلم للشروط اللبنانية في التصنيف، ويسمّي المكان باللغة التي تحبّها الحالة الطائفية. كما لو أن هذه المنطقة لا اسم لها، ولا وجود لها، إلا عبر الصيغة التي يقترحها التمثيل الطائفي ـ السياسي.

في الإعلام المحلي اللبناني، تُستَخدم مفردة "منطقته" (للإشارة إلى حزب الله)، أو "المنطقة"، عند الحديث عن الجنوب اللبناني، أو الضاحية الجنوبية لبيروت

وبشكل عام، يستخدم الإعلام اللبناني، وليس إعلام حزب الله فقط، مصطلحات من نوع "بيئة الحزب"، كبديل عن المفردات المتداولة لبنانياً، إن كانت في غاية الوضوح مثل "الطائفة"، أو إن كانت تتخذ شكلاً علمياً، مثل مصطلح "الجماعة" أو "المجتمع الأهلي". بالتالي، تصير الجماعة المقصودة بالمصطلح جماعة الحزب وحده، كما لو أنه لا يوجد فيها غير محازبيه ومناصريه. هذه "الترمينولوجيا" التي تستمد قوتها من النظام اللبناني تعزّز شعوراً عاماً بأن شعبية الحزب داخل جماعته لا تحتاج إلى تدقيق. 
في الأيام التالية، سنقرأ أخباراً مقتضبة، في وسائل الإعلام التي ليست لديها أي وظيفة مهنية إذا قورن الأمر مع وظيفتها بحماية مصالح سياسية مؤيدة، أو حتى معارضة للحزب، يحلو لها اختراع أساطير مضادة. سترد في الأخبار جمل من نوع "ضرب حزب الله طوقاً أمنياً حول المكان"، و"تجمع الأهالي"، وأشياء من هذا النوع. سيذهب الجميع في "جولة إعلامية"، في استجابة مؤسفة وبائسة للزر الذي ضغط عليه نتنياهو بتهديداته.
لم يكتشف الإعلام ومحللوه شيئاً. لم يسألوا عن توقيت الانفجار في عين قانا، أو "الرسائل"، أو الجهة التي تقف خلفه. في لحظة حدوثه، وقع الانفجار صدفة، وتزامن ذلك مع مرور طائرات معادية. هذه هي الرواية الإعلامية التي لدينا حتى الآن. بعد يومين، لم يعد هناك أي حاجة لكل هذا. يمكننا القول في الإعلام إن الانفجار في عين قانا لم يقع. سُحِب من التداول. ليس هناك قصة تقدّم للبنانيين، باستثناء تلك القصة الغريبة عن مخلفات حرب يوليو/ تموز 2006، بعدما كذّب الأهالي الخائفون أنفسهم وجود محطة محروقات في المكان الذي وقع فيه الانفجار، بعدما كذّب أهالٍ آخرون قصة المفرقعات في انفجار المرفأ. 

في الإعلام، أيضاً، انفجار مرفأ بيروت ما زال غامضاً، وما زالت حيوات المئات ضحية نكتة ساذجة تم الترويج لها، عن "تلحيم" العنبر (12). العنبر الذي يُنسى رقمه، كما لو أنه لم يكن، كما لو أن مدينة بالكامل لم تدمر، في لحظة "تخلي" عن نظرية "المؤامرة" بالضبط في ساعة حدوثها، مقابل نظرية "الصدفة". وفي الإعلام نفسه، اختفى انفجاران هائلان من التغطية والمتابعة والأسئلة، وحلّت مكانهما صور "حصرية" لـ"منشأة صناعية" في الجناح، سارع الجميع لنقلها، من دون أن يكون في الأحداث الثلاثة وتغطياتها أي معلومة تذكر.

المساهمون