إعادة الشباب رقمياً: جمالية بصرية فحسب

إعادة الشباب رقمياً: جمالية بصرية فحسب

15 نوفمبر 2021
مايكل غاندولفيني في "قدّيسون عديدون في نيوآرك" (خوسي بيريز/ باور ـ غريفين/ GC
+ الخط -

 

خيارات عدّة موضوعة حالياً أمام اشتغالٍ سينمائي، يرتكز على أعمار الشخصيات وممثّليها. أبرز تلك الخيارات كامنٌ في التعاون مع ممثل يؤدّي دور الشخصية نفسها التي يؤدّيها ممثل آخر، لكنْ في زمن ـ عمر سابق أو لاحق. روبرت دي نيرو يؤدّي شخصية فيتو كورليوني الشاب، في "العرّاب 2" (1974) لفرنسيس فورد كوبولا، التي يؤدّيها مارلون براندو في الجزء الأول (1972) من الثلاثية المشهورة، للمخرج نفسه. مايكل كورليوني يتقدّم في السنّ كتقدّم آل باتشينو، الذي يُستعان ببعض الماكياج ليتلاءم الممثل مع التحوّل الجسدي للشخصية، في الجزء الثالث (1990).

تقنيات سبعينيات القرن الـ20 غير قادرة على ابتكار ما يحصل حالياً. "الإيرلندي" (2019) لمارتن سكورسيزي (نتفليكس) يختبر جديداً معروفاً بـ"إعادة الشباب رقمياً"، ليتمكّن الممثل نفسه من تأدية الشخصية نفسها في عمرٍ سابق. باتشينو ودي نيرو وجو بيشي يخضعون لهذه التقنية ـ التجربة، فيُؤدّون أدوارهم بأنفسهم (جايمس ريدل "جيمي" هوفا وفرنك "الإيرلندي" شيران وراسل بوفالينو)، بدلاً من الاستعانة بممثلين آخرين. تقنية كهذه تُساهم، إنْ لم تكن سبباً وحيداً، في رفع القمية المالية للميزانية (159 ـ 250 مليون دولار أميركي).

آراء نقدية تقول بفشل التجربة. مُشاهدة "الإيرلنديّ"، أكثر من مرة، تكشف التباساً بين كون التجربة باهرة، وفشلها. لحظات عدّة تعكس شيئاً حقيقياً من أعمارٍ، والشخصيات نفسها تُكمِل المسار التاريخي للحبكة مع الممثلين أنفسهم، الذين يختبرون أداءً ينتقل بهم ومعهم من عمر إلى آخر.

"في هذا العصر الرقميّ الجديد، هذا ما يجب أنْ نفعله. التعاون مع ممثل آخر، وإخضاعه لماكياج لإبراز التشابه (بينه وبين الممثل الأصلي) وتأكيده، هذا لم يعد كافياً"، يقول آنغ لي ("لو باريزيان"، 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، بمناسبة إطلاق العروض التجارية لفيلمه (2019)، "رجل الجوزاء (Gemini Man). التقنية المستخدمة تعيش ازدهاراً حينها. "إعادة الشباب رقمياً" تعني زرع وجه الممثل الأصلي على جسد ممثل آخر، لتظهر الشخصية في سنّ باكرة. مع ويل سميث، هناك استنساخ لهنري بْروغان، يجعله أصغر سنّاً منه بنحو 20 عاماً. قبيل نهاية الفيلم، استنساخ ثانٍ للأصغر سنّاً من المستَنْسَخ الأول.

يُسأل آنغ لي عن سبب عدم تعاونه مع جادن، ابن ويل سميث، الذي يُشبهه كثيراً، والذي يُتقن التمثيل: "إنّه (جادن) يمتلك 50 بالمئة فقط من الرأسمال الجينيّ لوالده. بهذا، هو ليس استنساخاً منه. أمرٌ مُخيف أنْ يُخلَق كائنٌ رقميّ. لكنّها تجربة يُستَحَق خوضها".

هناك نمط ثالث من تبادل الشخصيات، وعلاقة أعمارها وأعمار ممثليها بها. بين التعاون مع ممثل آخر واستنساخ الممثل نفسه (زرع وجهه على جسد ممثل آخر أصغر سنّاً منه)، يقترح ديفيد تشايس، مبتكر السلسلة التلفزيونية "آل سوبرانو" (1999 ـ 2007، إنتاج HBO)، الاستعانة بالابن الحقيقي للممثل، لتأدية شخصية والده في فيلم سينمائي، لكنْ في عمرٍ أصغر. لعلّ هذا منبثق من رحيل جايمس غاندولفيني (1961 ـ 2013). الأهمّ كامنٌ في أنّ مايكل غاندولفيني (مواليد 10 مايو/أيار 1999) يؤدّي دور والده، توني سوبرانو، في "قدّيسون عديدون في نيوآرك (Many Saints Of Newark)، جديد آلن تايلور (إنتاج عام 2021، يُعرض على شاشة المنصّة الأميركية HBO Max منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما في بعض الصالات)، الذي يُعتبر تمهيداً تاريخياً، بامتدادتٍ اجتماعية وانفعالية وإجرامية، لنشوء "عائلة سوبرانو" المافياوية.

 

 

"بالنسبة إلى ديفيد تشايس، لا مؤثّرات خاصّة ولا روبرت دي نيرو (إشارة إلى تجربتي "العرّاب" و"الإيرلندي"). خياره كامنٌ في إعادة الحياة إلى "مخلوقه" توني سوبرانو، بالتعاون مع ابن مؤدّي الشخصية نفسها في 86 حلقة" (فريدريك فوبير، المجلة السينمائية الفرنسية "بروميير"، نوفمبر/تشرين الثاني 2021). مايكل صغير جداً عند عرض الحلقات التلفزيونية. ولادته حاصلة بعد 5 أشهرٍ فقط على بثّ الحلقة الأولى (10 يناير/ كانون الثاني 1999): "الأمر رهيبٌ. أعلم منذ البداية أنّه هو توني على الشاشة"، يقول تشايس في مقالة فوبير، الذي يذكر أنّ مايكل ـ الممثل في أفلامٍ مختلفة وقليلة، مع ظهور تلفزيوني له في حلقات من The Deuce (2017 ـ 2019، إنتاج HBO) ـ يعزل نفسه أشهراً طويلة في منزله، ليُشاهد حلقات "آل سوبرانو"، مُدقّقاً فيها، ومتأمّلاً مسارات شخصياتها، ومنتبهاً بشدّة إلى توني سوبرانو.

لكنّ مايكل غاندولفيني لن يكون محور "قديسون عديدون في نيوآرك". إنّه جزءٌ يكاد يكون هامشياً، لكنّه يُتيح فهم شخصية توني سوبرانو، والظروف الكثيرة المُرافقة لسيرته السابقة على تفرّده في إنشاء عائلة مافياوية، والشخصيات المتنوّعة التي يعرفها منذ مراهقته وبدايات شبابه. جديد آلن تايلور يروي حكاية ريتشارد "ديكي" مولتِسانتي (أليسّاندرو نيفولا)، "الجندي" في العائلة المافياوية دي مِيُو.

للتقنيات إيجابية الاختبار. النتائج تحتاج إلى أفلامٍ عدّة لتتبلور أكثر. التمثيل يكشف براعة أو عدم براعة الممثل في تأدية شخصيةٍ سينمائية في عمرٍ سابق لها، يؤدّيها ممثل آخر. البراعة منبثقة من آليات اشتغال ومفاهيم خاصة بهذا الممثل أو بذاك المخرج، وبرغبات يسعى الفيلم إلى تحقيقها. التقنيات، رغم أهميتها، جماليات بصرية، تمنح المُشاهد متعة إضافية، إنْ يكن الفيلم قابلاً لإثارة متعٍ، ولتحريضٍ على تساؤلات.

الشكل مهمّ وضروري، لكنّ التقنيات لن تصنع وحدها فيلماً سينمائياً، رغم أنّها أساسية في جوهره. لـ"الإيرلندي" أهمية سينمائية، بعضها جماليّ بالتأكيد، لمزجه حكاية أناسٍ بتاريخ بلد ونقابات وسياسة وحالاتٍ وأحوالٍ. "رجل الجوزاء" يمتلك حِرفية التشويق، ويطرح أسئلة الاستنساخ البشريّ، مع اختبار تقني لافت للانتباه، ومُثير لسؤال المستقبل التقني هذا. "العرّاب" يُتيح متعاً أكثر، بينها جمالية التمثيل وتأثيراته على السياق والأداء والعلاقة الناشئة بين ممثل ومُشاهد. مايكل غاندولفيني في بداياته، تماماً كأحد المفاصل الأساسية في مهنة روبرت دي نيرو، المتمثّل بـ"العرّاب 2".

"إنّه عصر رقمي جديد". هذا صحيح. السؤال: ما الذي سيُضيفه هذا العصر على صناعة السينما، باستثناء قدرته على استنساخ الممثل، مرّة أو مرّتين؟

المساهمون