استمع إلى الملخص
- استجابت السينما للضغوط وألغت العروض، لكنها استأنفتها بدعم من منظمات حقوقية، مما أدى إلى تراجع العمدة بعد رفض مجلس المدينة للرقابة.
- تعكس الأحداث نمطاً من التضييق على الأصوات الناقدة لإسرائيل في الغرب، حيث تُستخدم اتهامات معاداة السامية لإسكاتها، مما يثير تساؤلات حول حرية التعبير.
في مشهد يُذكر بأحلك أيام المكارثية في الولايات المتحدة، وجدت صالة "أو سينما" المستقلة في ميامي بيتش نفسها في قلب عاصفة سياسية وثقافية بعد عرضها الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى" (No Other Land). فقد تحول عرض الفيلم الحائز جائزة أوسكار أفضل وثائقي، إلى معركة حول حرية التعبير، والحدود الفاصلة بين معاداة السامية والنقد السياسي، ودور الفن في تسليط الضوء على القضايا الإنسانية المهمة.
تفجرت هذه المعركة حين تلقت فيفيان مارثيل، الرئيسة التنفيذية لـ"أو سينما"، في الخامس من مارس/ آذار الماضي، رسالة رسمية من عمدة ميامي بيتش ستيفن ماينر، يطالبها فيها بإلغاء جميع العروض المقررة للفيلم. وصف ماينر الفيلم في الرسالة بأنه "أحادي الجانب" و"غير دقيق" و"معاد للسامية"، مستنداً إلى ملكية المدينة للمبنى الذي تستأجره السينما، هدد العمدة بإلغاء عقد الإيجار وقطع التمويل البالغ 80 ألف دولار الذي تقدمه المدينة للمؤسسة الفنية.
في البداية، استجابت إدارة السينما للضغوط وألغت العروض المقررة، لكنها سرعان ما قررت العودة عن قرارها واستئناف العروض، بل أضافت أربعة عروض أخرى للفيلم، في تحدٍ واضح للضغوط السياسية. وفي مؤتمر صحافي عقب القرار، وقفت مارثيل إلى جانب ممثلي اتحاد الحريات المدنية الأميركي والائتلاف الوطني لمكافحة الرقابة، قائلة: "هذا الأمر أكبر من مجرد فيلم، إنه يتعلق بالحق الأساسي في حرية التعبير والنزاهة الفنية ودور السينما المستقلة في مجتمعنا".
تصاعدت الأزمة عندما طرح العمدة ماينر قراراً رسمياً أمام مجلس المدينة يقترح فيه إنهاء عقد إيجار السينما ووقف تمويلها. لكن ما حدث في جلسة المجلس يوم الأربعاء، 19 مارس/ آذار 2025، كان مفاجئاً. في هذا اليوم تدفق العشرات من سكان ميامي بيتش إلى مقر مجلس المدينة للتعبير عن رفضهم لمحاولة الرقابة هذه، وهو ما دفع العمدة للتراجع عن قراره، خاصة بعد رفض غالبية أعضاء مجلس المدينة هذا القرار. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان هذا التراجع نابعاً من إيمان حقيقي بالديمقراطية، أم مجرد مناورة سياسية أمام الضغط الجماهيري والإعلامي؟
"لا أرض أخرى"، هو وثائقي شارك في إخراجه الرباعي باسل عدرا وحمدان بلال ويوفال إبراهيم وراحيل تسور، وهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون داعمون للقضية الفلسطينية. الفيلم، الذي صوّر بين عامي 2019 و2023، يوثق تدمير القوات الإسرائيلية قرى فلسطينية في منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية. ورغم الفوز بجائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي، واجه الفيلم صعوبات كبيرة في العثور على موزع في الولايات المتحدة، واضطر المخرجون لتوزيعه بأنفسهم. ولم يعد هذا الأمر غريباً في سياق أميركي رسمي منحاز تماماً لإسرائيل، أصبحت فيه أي انتقادات للسياسات الإسرائيلية موضع شك واتهامات بمعاداة السامية.
ما حدث مع "أو سينما" ليس حالة معزولة، بل جزء من نمط مقلق، ففي مارس 2024، أزيلت بهدوء لوحة للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد من معهد الفن المعاصر في ميامي. وفي مايو/ أيار من العام نفسه، أزيل عمل فني بعنوان "كيف نعيش مثل الماء" من واجهة صيدلية بعد شكاوى من أنه يحتوي على عبارة "من النهر إلى البحر". وفي يونيو/ حزيران الماضي، أصدرت لجنة ميامي بيتش قراراً يمنع المدينة من التعاقد مع أي شركات تدعم مقاطعة إسرائيل. شكلت هذه الحوادث وغيرها سابقة خطيرة في مدينة تفخر بتنوعها الثقافي وحيويتها الفنية.
أثارت تصرفات العمدة ماينر موجة غضب واسعة، ففي يوم واحد، تلقّى هو وأعضاء المجلس البلدي رسالة موقعة من عشرات السينمائيين، بينهم المخرج الحائز أوسكاراً باري جينكينز والمخرج مايكل مور والممثلة الحائزة أوسكاراً ماريسا تومي. وصفت هذه الرسالة تصرفات العمدة بأنها "هجوم على حرية التعبير". كما اتخذت "أو سينما" إجراءات قانونية استباقية، بمساندة من اتحاد الحريات المدنية الأميركي.
تبدو هذه الأحداث نموذجاً مصغراً لظاهرة غربية أوسع يتم فيها استخدام اتهامات معاداة السامية كأداة لإسكات أي صوت ناقد للسياسات الإسرائيلية. الخطير في الأمر هو تحويل النقاش إلى معادلة زائفة، فإما أن تكون معادياً للسامية، أو أن تدعم الرقابة. ما حدث في ميامي بيتش ليس مجرد نزاع حول فيلم، بل اختبار لقيم الديمقراطية الأميركية ذاتها. فإذا كان فيلم فائز بجائزة أوسكار، أخرجه فلسطينيان وإسرائيليان معاً، يمكن أن يثير كل هذه العاصفة، فما هو المصير الذي ينتظر الأعمال الأقل شهرة أو الأكثر جرأة؟ إن هذا السجال المحتدم حول عرض الفيلم هو نموذج صارخ لسياسة التضييق على الروايات الفلسطينية في الغرب، حيث يُختزل أي تعاطفٍ مع القضية الفلسطينية في إطار "معاداة السامية"، بينما يُغض الطرف عن انتهاكات الاحتلال وجرائمه المستمرة في حق الفلسطينيين.
يأتي كل ما سبق في سياق عام من التضييق على أي رأي مساند للفلسطينيين في وجه المقتلة المستمرة في قطاع غزة. فمنذ وصول ترامب إلى الرئاسة بدأت حملة ملاحقة واعتقال لطلاب جامعات وأطباء وأساتذة، بسبب موقفه المطالب بوقف لإطلاق النار في غزة، مع تهديد بترحيلهم، كما هي الحال مع الفلسطيني محمود خليل، الموقوف حالياً، بعد اتهامه بالتحريض على التظاهرات في جامعة كولومبيا طيلة العام الماضي، احتجاجاً على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.