أول دورة افتراضية لـ"برليناله": تجدّد العزلة أو استمرارها؟

أول دورة افتراضية لـ"برليناله": تجدّد العزلة أو استمرارها؟

05 مارس 2021
حشود الـ"برليناله 2020": مرة أخيرة أم بداية تقليد جديد؟ (فرانزيسكا كروغ/ Getty)
+ الخط -

أول دورة افتراضية لـ"مهرجان برلين السينمائي" تُقام بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021. تجربة تستحق تعليقاً. قبل عام، تنتهي الدورة الـ70 في الأول من مارس 2020. حينها، يبدأ كورونا مطاردته مهرجانات السينما، بعد تمدّده في أصقاعٍ مختلفة في العالم. حشودٌ تصطف وقتاً طويلاً قبل أنْ تُفتح أبواب الصالات. أفرادٌ يلتصقون بأفرادٍ ولا مسافة مريحة، فكثيرون يريدون المُشاهدة، ولا بأس إنْ يكن انتظار الموعد المحدّد طويلاً. يومها، قلقٌ مختلف يجعل البعض مرتاباً من كثرة الناس حوله: قبل بداية الدورة تلك (20 فبراير/ شباط 2020)، يحصل اعتداء مسلّح على أفرادٍ في مقهى، في بلدة قريبة من برلين. لكنّ النكات الساخرة أقوى من القلق، والرغبة في مُشاهدة الأفلام أقدر على تبديد كلّ قلق، والتجوّل في المدينة الأجمل يحثّ على تجاوز المخاوف.

هذا العام مختلف. الأشهر السابقة عليه مختلفة أصلاً. كلّ شيء تبدّل بسرعة وقسوة. مغادرو برلين حينها غير عارفين أنّ لقاء أصدقاء ومعارف في أيام ثمانية ربما يكون الأخير. مدنٌ تنغلق على نفسها. صالات توصد أبوابها. تعطيل عام. بعض ذكريات تتفلّت من هذا كلّه، والنزهات القليلة في شوارع برلين، رفقة أصدقاء، تحول دون أنْ تقول لهم إنّ شيئاً قاسياً سيُغيّر مجرى الحياة وأشكالها، قريباً. التنقّل السريع بين صالة وأخرى لن يحصل هذه الدورة. محاولة العثور على مقاعد أفضل في الصالة لن تجد صدى لها في مُشاهدة افتراضية، في غرفة صغيرة، في منزل خاص. سهرات كلّ ليلة تبقى ذكرى جميلة، فالأمكنة مغلقة بإحكام، والأصدقاء مُقيمون في مدنهم وبيوتهم، والشاشات أمامهم تمنحهم بعض مُشاهدة، والعزلة طاغية.

لا علاقة لهذا بحنين ورومانسيات. كلّ كلامٍ عن أهمية أنْ تبقى الصالة "المكان الطبيعي" للمُشاهدة غير مهمّ وغير مُقنع. كلّ المتفرّع عن كلامٍ كهذا غير نافع وغير حيوي وغير حقيقي. لا معنى لمُشاهدة في صالةٍ مع 400 مُشاهد آخر، أو أكثر. نادرون هم الذين يلتقون بعد كلّ عرضٍ لنقاش وتبادل آراء وتحليل. كلّ واحد منهمك بذاته، ومشغول بأشيائه، وراغب في عزلته. نادرون هم الذين ينفتحون على آخرين، فيدردشون معهم بين فيلمٍ وآخر، أو عند تناول وجبة سريعة، أو مع احتساء فنجان من القهوة. حميمية المشاهدة الجماعية غير صحيحة. العزلات فيها أقوى من أنْ تُخفى على أحدٍ. متعة الشاشة الكبيرة لن يُضاهيها شيءٌ، هذا صحيح. لكنّ المُشاهدة المرتكزة على التقنيات الحديثة، قبل كورونا، كفيلةٌ بمنح متعٍ كثيرة لمُشاهدة منعزلة عن الجميع، وإنْ تكن شاشة السينما أكبر حجماً.

 

 

هذا حاصلٌ أيضاً في عروضٍ خارج المهرجانات. الذين يلتقون بعد مُشاهدة فيلم يكونون أصدقاء ومعارف، فينتقلون من صالة إلى مقهى أو حانة، ويُمضون وقتاً في كلامٍ عن الفيلم وعن غيره. الغرباء يبتعدون عن الغرباء، فلا كلام ولا نقاش ولا شيء. المُشاهدة الافتراضية تؤكّد هذا، رغم أنّ هذا معروفٌ سابقاً، ومُعَاش. وحدهم الذين يُشاركون في مؤتمرات صحافية لعاملين/ عاملات في هذا الفيلم أو ذاك سيفتقدون تلك اللحظات، التي تُتيح لهم لقاءً مباشراً مع عاملين/ عاملات في فيلمٍ، كما سيفتقدون لقاءات/ حوارات جماعية أيضاً. أما الباقي، فلم يتغيّر مع ضربات كورونا وتأثيراته على أنماط الحياة والعلاقات.

بعضٌ آخر يفتقد أمراً آخر: جلسات النميمة في سهراتٍ، يتخلّلها كلّ سجال ممكن، مع كأسٍ وسجائر ونكات. النزهات الليلية أحياناً، في هذه المدينة أو تلك، رغم أنّ النزهات تتكرّر عاماً تلو آخر، لكنّ بعض المدن يسحر المرء دائماً بجمال ابتكاراته الجديدة في تجوّل ليليّ في الأمكنة نفسها.

مشكلة الافتراضيّ في بلدٍ كلبنان كامنةٌ في الانقطاع الدائم للكهرباء، وفي ضعف شبكة الإنترنت. بين الأول والثالث من مارس/ آذار 2021، تتعطّل المُشاهدة الافتراضية مراراً، فالتيار الكهربائيّ معطوبٌ، وساعات التغذية تتناقص، ومولّدات الكهرباء الخاصّة تُصاب بـ"تعبٍ". هذا مُرهِق. هذا يحتاج إلى صبرٍ طويل.

دورة افتراضية أولى لمهرجانٍ، يُصنَّف "فئة أولى"، لن تكون حدثاً عابراً، تماماً كالدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي (لا موسترا)"، المُصنَّف أيضاً "فئة أولى"، رغم اختلافٍ بينهما. حدث "لا موسترا" كامنٌ في تحدّي إدارة المهرجان عوائق كورونا، وتنظيم دورة جديدة، وتحقيق نجاحٍ يتحدّث عنه مهتمّون عديدون لغاية اليوم. الـ"برليناله" يُفضِّل "أونلاين"، لعدم التأجيل أو الإلغاء، ولعدم المخاطرة. الأشهر الطويلة الماضية مليئة بكلامٍ عن تغييرات حادّة، مفروضة على السينما وصناعتها وطقوس مشاهدة أفلامها وتوزيع تلك الأفلام وعروضها. التكنولوجيا دافعٌ إلى عزلاتٍ تسبق ما يفرضه كورونا من عزلاتٍ، والعزلات كلّها تُثير نقاشاً في الاجتماع والسلوك وعلمي النفس والتربية، وفي العلاقات والتواصل والتفكير.

كورونا متأخّرٌ على هذا، بل مجرّد عاملٍ لبلورة مزيدٍ من النقاش، وإنْ بأدوات وأشكال أخرى.

المساهمون