أوركسترا المقاومة الوطنية الفلسطينية

أوركسترا المقاومة الوطنية الفلسطينية

23 مايو 2021
في الهبّة الفلسطينية الأخيرة (عبّاس مومني/فرانس برس)
+ الخط -

شاءت الأقدار للسوريين الصغار من أبناء جيلي، أول التسعينيات، أن تكون أغاني الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) على قائمة الأكثر رواجاً. تُسمع في دمشق وحلب واللاذقية. طفولة في بزّة مدرسية بلون الرمال أو الخضرة العسكرية، خيطت على مقاس الشعب، لوعدٍ بتحرير أرض محتلة، داخل أسوار المدارس وفي الشوارع، تغني وتهتف لأطفال الحجارة في القدس وغزة، والضفة الغربية.

على الأرض المحتلة ذاتها، وفي الضفة الغربية تحديداً، كان الواقع أشدّ التصاقاً ودرامية. عازف آلة كلارينيت ومؤلف من نابلس، اسمه سهيل خوري، تدرّب على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، قرّر توظيف طاقاته الإبداعية ومهاراته الفنية في إنتاجٍ موسيقي يدعم الانتفاضة في أشهُرها الأولى.

في كتابه المعنون "صوتي هو سلاحي: الموسيقى، القومية، وشعريّة المقاومة الفلسطينية" (My Voice Is My Weapon - Music, Nationalism and the Poetics of Palestinian Resistance)، يتحدث الباحث المختص بموسيقى الشعوب، ديفيد ماكدونالد David A.McDonald، عن أول تحرّك فني لسهيل أطلق عليه "شرر". 
فيه، أعاد الأخير تصميم أغانٍ فلسطينية فولكلورية معروفة، تُدعى بـ "شعبي"، سجّلها على أشرطة كاسيت، لتصير مراسيل تبثّ في البلاد أخبار الانتفاضة العاجلة.

أشبه بصحيفة موسيقية، تحمل أنباء الاشتباكات، تُحصي أعداد القتلى والجرحى، وتعلن عن مواعيد التظاهرات والإضرابات، تنتشر في أرض تشرذمت بفعل واقع الاحتلال وسياسات الفصل، من كتل استيطانية وسُوَج ونقط تفتيش أمنية، هدفها عزل التجمعات السكانية وتقويض فرص التواصل والتنسيق في ما بينها.

بينما كان في سيارته يوماً يهم بإيصال نسخٍ من إصداره "شرر"، جرى توقيفه لدى عبوره حاجزاً إسرائيلياً ومصادرة جميع الأشرطة. ليُحال إلى المحاكمة بتهمة التحريض، بموجب قانون يعود بالأصل إلى زمن الانتداب البريطاني.

حُكم عليه بقضاء خمسة عشر شهراً في السجن. أتمّ منها أشهراً ستة، تعرض خلالها لمختلف أشكال التعذيب والإساءة الجسدية والنفسية. في إثر ذلك، دخل سهيل خوري ميدان النشاط السياسي الفلسطيني، من باب الاعتقال العالي. 

صدىً لما جرى، سَرَت بين الشبيبة حُمّى البحث من أجل حيازة ولو واحداً من تلك الأشرطة. من دون علمٍ من منتجه، وَجدت نسخة واحدة طريقها إلى إحدى البلدات، جرى إعادة طبعها لمئات الآلاف من المرات، ليصير "شرر" أول إنتاج موسيقي، احتجاجي، نشاطوي، تمّ كلياً على الأرض الفلسطينية وتحت الاحتلال.

في حديث لماكدونالد، يقول خوري: "أراد الفلسطينيون أن يسمعوا بأنفسهم الشريط الذي استثار ردّة الفعل الإسرائيلية العنيفة. بالإضافة إلى كونه موسيقى للانتفاضة أنتجتها أرض الانتفاضة، وليس أحد الأستوديوهات في الأردن، أو سورية، أو لبنان. فيه يُسمع لون الشعبي مُحمّلاً بمضامين سياسية. يهدف إلى توحيد الناس وإحاطتهم بآخر المستجدات في بقع ساخنة قد تكون نائية مقطّعة الأوصال. المفارقة، إنّ تهديدي من قبل الاحتلال بسجني سنوات طويلة من أجل شريط، جعلت من الشريط ينتشر ليحلّ في كلّ بيت".

اليوم، وبعد ثلاثة عقود، صار للأرض المحتلة معهد وطني أكاديمي للموسيقى الكلاسيكية والعربية، في بلدة بيرزيت، برام الله، باسم "كونسرفتوار إدوارد سعيد" ESNCM، يديره سهيل خوري نفسه. كما صارت لفلسطين أوركسترا وطنية، تضم عازفات وعازفين من الداخل ومن المهجر، باسم "أوركسترا شباب فلسطين" PYO. قدمت على مدى السنين العشر الماضية حفلات في كلّ من ألمانيا وفرنسا واليونان، بالإضافة إلى بعض الدول العربية.

مريم عفيفي، عازفة الكونتراباص في الأوركسترا، كانت قد تصدّرت مؤخراً مواقع الأخبار الدولية ومنصّات السوشيال ميديا، إثر تسريب مقطع فيديو، انتشر فيروسياً، يصّور واقعة اعتقالها من قبل قوات الاحتلال، جرّاء مشاركتها في إحدى التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على مساعي المستوطنين الأخيرة في الاستيلاء على بيوت أسر فلسطينية في حيّ الشيخ جرّاح في مدينة القدس المحتلة.

خلافاً لسهيل، لم يحمل فعل مريم صفة فنيّة أو موسيقية مباشرة، إذ لم يكن أحد لينتظر من العازفة الشابة أن تنزل بآلة الكونتراباص الخشبية العملاقة، باهظة الثمن، إلى الشوارع المشتعلة فتسحقها الهراوات الإسرائيلية وتقطّع أوتارها سبطانات البنادق الآلية، قبل أن تُعيد بسرمدية رسم مشهد عازف التشيلّو الروسي الأشهر مستيسلاف روستروبوڤيتش (1927 -2007) Mstislav Rostropovich يعزف لجموع المتظاهرين من موسيقى المؤلف يوهان سباستيان باخ أمام حاجز تشارلي Checkpoint Charlie عند جدار برلين، عقب انهياره في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1989.

كما أنّ تسارع الأحداث الأخيرة، وسيولتها، ناهيك عن تسارع الزمن الراهن وسيولته، حتّمت خيار الاشتباك النشاطوي الآني والمباشر، إذ إنّ رفاه الوقت لم يكفِ من أجل الإقدام على فعل فني، أكان أداءً وغناءً، أم تأليفاً وتلحيناً، يواكب عقد التاريخ وهو ينفرط أمام عيون العالم على "فيسبوك" و"تويتر".

مع ذلك، ثمة تقاطعات مثيرة تجمع كلا الفعلين المقاومين لكلّ من سهيل ومريم وسياقاتهما التاريخية. أولها، صفة الموسيقي، الفنان، المشتغل بالموسيقى والفنّ وحضوره، بآلة موسيقية أو من دونها، عضواً فاعلاً في مجتمع فريد كالمجتمع الفلسطيني، يستحيل الفصل فيه بين الحياتي الاجتماعي والنشاطوي السياسي.

هناك، أيضاً، صفة الإبداع النشاطوي المنسجم مع كلّ مرحلة وطبيعة أدواتها التكنولوجية. فـ "شرر" سهيل لم يكن ليشكّل أي خطر على تكتيكات الاحتلال المتبعة في قمع الانتفاضة الأولى، لو لم يكن شريطاً قابلاً للنسخ، وبالتالي الانتشار السريع.

في المقابل، أتى اختيار مريم اللغة الإنكليزية، التي تُجيدها بطلاقة، لمخاطبة العسكري الإسرائيلي وهي تجثم مكبّلة على الأرض، بعدما أدركت أنّ رفاقاً لها قد أشهروا جوّالاتهم يصورون الحدث، ليُعطي الفيديو الفيروسي قوة دفع كوكبية، استطاع أن يؤثر من خلالها في كلّ الكرة الأرضية.

أخيراً، منذ النكبة سنة 1948، مروراً بالحروب والانتفاضات المتعاقبة، نشأ جيلنا، ومن سبقه، في دمشق والعواصم العربية، على مقولة إنّ القضية الفلسطينية هي "قضية العرب المركزية". أما جيل مريم، فيُعيد تأكيد ما أكدّه جيل سهيل زمن الانتفاضة الأولى؛ أنّ القضية الفلسطينية هي أولاً قضية الفلسطينيين المركزية؛ الفلسطينيين أجمعهم، لا خطوط تعزلهم، ولا حدود تفصل بينهم. ذلك وحده ما يجعل منها، كما نشهد اليوم، ليست قضية العرب فقط، وإنّما كلّ العالم.

المساهمون