أنيس الأسود: "الحكايات صعبة لأنّ الواقع أقسى من السينما"

أنيس الأسود: "الحكايات صعبة لأنّ الواقع أقسى من السينما"

04 يوليو 2022
أنيس الأسود: "لا يوجد شيء اسمه الإلهام من دون عمل" (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تتميّز غالبية أفلام المخرج التونسي أنيس الأسود بأمرين: الانحياز إلى الطفولة، وأحلامها وقضاياها ومشاكلها؛ واشتغاله على وضعية البتر في المجتمع، بأشكال متابينة. لأعوامٍ، ظلّت أفلامه تُراوح بين الوثائقي الطويل والروائي القصير. مع ذلك، يعترف بأنّه لا يُميّز بين النوعين، فكلاهما فنّ سينمائيّ، ولجوءُه إلى الروائي مرتبطٌ بأسباب أخلاقية فقط، عندما يشعر بالخطر على الأطفال. يؤمن بأنّ للسينما أدواراً تربوية وتأريخية، إلى الترفيهيّ. فالسينما تلتصق بالواقع، وتشتغل على تفاصيله، المؤلمة والمُبهجة.

له 16 فيلماً، نال بعضها نحو 200 جائزة وتنويه وشهادات تقدير، آخرها "جائزة عزّ الدين ميدور للفيلم الأول" في الدورة الـ27 (10 ـ 17 يونيو/حزيران 2021) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسّط" عن أول روائي طويل له، بعنوان "قدحة ـ حياة ثانية" (2021).

في هذه المناسبة، التقته "العربي الجديد":

 

(*) متى قرّرت التفكير في هموم مجتمعك بالصورة السينمائية؟ أو بالأحرى، متى وُلد حلم الإخراج فيك؟

كنتُ في مرحلة الثانوية العامة. شاهدتُ "ريح السد" لنوري بوزيد في قاعة صغيرة للاتحاد النسائي. دخلت القاعة المظلمة، وشاهدت أناساً يحكون. لم يكونوا مصريين. الفيلم يحكي عن مشاكل تونسية، والممثلون جيّدون جداً. هذا الفيلم جعلني أدرك قيمة التعبير البصري، وكذلك الممثلون. لكنّي خرجت منه وفيَّ خلطٌ بين دور المخرج ودور الممثل. كنت أعتقد أنهما الشخص نفسه، وعشت هذا الاعتقاد طويلاً. أدركت الفرق عندما بدأت أبحث عن الأفلام التونسية. ذهبت إلى قرطاج لمُشاهدة الأفلام، وحينها، اخترت مهنة الإخراج، لأنّي التقيت مخرجين مهمّين، كيوسف شاهين وصلاح أبو سيف وناني موريتي. هؤلاء يأتون إلى تونس، ويشاركون في مهرجان قرطاج، ويجلسون في المقاهي، وكنا نجلس معهم، ونستمع إلى أحاديثهم. هذا لعب دوراً مهمّاً في تكويني الثقافي والسينمائي.

 

(*) عملت مع مخرجين من مختلف الأجيال، كأنّك لا تنحاز إلى أحد دون الآخر، حتّى إنّ البعض انتقد دفاعك عن الجيل القديم. فهل هذا بسبب التربية التي نشأت عليها، أم أنّها شخصيتك؟

درست السينما في معهد لها في تونس. كنت أدرس الهندسة، وفجأة انقطعت عنها وذهبت إلى مدرسة خاصة لدراستها. كان هذا صادماً للأسرة، وأثار خوفهم لأنّي انتقلت من التعليم العالي إلى التعليم الخاص، وهذا لم يكن محبوباً لدى العائلات في تونس. كانت أمي خائفة، لكنّ أبي ظلّ يتابعني. في أثناء ذلك، كان المخرجون الكبار يُعدّوننا حتى نعاونهم: نوري بوزيد والحميد أبو عطية والفاضل الجعايبي. في الوقت نفسه، كانوا يُعلّموننا السينما بأفلامهم. عملت مساعداً لهم، كما عملت مع محمود بن محمود والناصر خمير وعبد اللطيف بن عمار.

 

(*) عملت مساعد مخرج أول ومدير إنتاج في أكثر من 50 فيلماً طويلاً، تونسياً وأجنبياً. ما سرّ ذلك؟

كان المخرجون يحبّونني كثيراً، لأنّي كنت أقدّم لهم اقتراحاً واحداً فقط. إمّا أنّ أقدّم اقتراحاً واحداً، أو لا شيء. لم أكن أفعل مثل آخرين، يقدّمون 10 اقتراحات. كنت أدرس المشروع جيداً، وأدرس الشخصيات، وأبحث طويلاً عن الممثلين المناسبين للأدوار. كنت أقدم اقتراحات تُعجبهم. أنا أحترمهم، لأنّهم علّموني كثيراً من الأشياء حينها. كان لديهم شغف كبير بفنّ السينما، وكانوا جادّين جداً في عملهم.

عملتُ مساعداً في أعمال أجنبية أيضاً: "المريض الإنكليزي"، و"آلام المسيح" مع ميل غيبسون، و Mr Wall، وغيرها.

 

(*) هذا كلّه بين تونس وإيطاليا. درست في إيطاليا 4 أعوام، وحقّقت مشاريع قصيرة.

هذا جعلني أنفتح على الآخر، ونحت شخصيتي كمخرج، ومنحني فرصة الاشتغال على نفسي. تعلّمت من هؤلاء أهمية العمل. لا شيء يأتي من دون عمل. لا يوجد شيء اسمه الإلهام من دون عمل. تعلّمت الاشتغال على أدقّ تفاصيل السكريبت الذي أعمل على تصويره.

 

(*) هذه المرونة عرّضتك للنقد من زملائك.

كانوا ينتقدونني لأنّي امتدح الأجيال القديمة، وكنت أردّ عليهم بأنّه لولا هذه الأجيال لما صنعنا هذه السينما اليوم. نحن تعلّمنا منهم. هم مَنْ وضع كلّ القوانين، وقدّموا لنا تجاربهم، كالدعم الذي يُقدّم إلى السينما في تونس، هم الذين قدّموه. لولاهم، لما كان هناك دعم للسينما. فكيف نتجاهلهم؟ نحن نبني على تاريخهم وتجاربهم.

 

(*) لماذا قرّرت العمل طويلاً في الوثائقيّ؟ هل كانت الأفكار تفرض نفسها؟

أظنّ أنّ عملي في الوثائقي لم يكن اختياراً، بل فُرض عليَّ، بسبب تكويني الخاص. عشت في منطقتين في تونس، إحداهما المنستير. ظروفها في السبعينيات بسيطة جداً، حتى في الملابس. هذا شاهدته بوضوح في صوري. لاحقاً، في مرحلة المراهقة، انتقلت إلى نابل، الأعلى قليلاً، اجتماعياً واقتصادياً. فيها زواج مختلط، وفرنسيون وألمان. إنّها منطقة سياحية.

هذا جعلني أرى أنّ هناك طفولتين: طفولة محرومة، وأخرى لها إمكانات كثيرة إلى حدّ البذخ. بعض هؤلاء أصدقائي في المدرسة، وهذا أثّر فيّ كثيراً. بعد ذلك، أثّر عملي في السينما باختياري. كنت أعمل مع الكومبارس كثيراً، وأشتغل كثيراً مع العائلات، في الصحراء والمناطق المتطرّفة، التي لديها مشاكل. هذا جعلني أقرب إلى الأطفال. كلّما فكّرت في موضوع أعجبني، أنساقُ إلى معالجة قضية تخصّ الأطفال، كأنّي أصبحت رهينة عندهم. صرت أشعر بأنّي لا بُدّ أنْ أحكي عن مشاكلهم، وعن "من الحلم إلى المشاكل"، و"من قيمة الحلم إلى كثرة المشاكل". هذه المشاكل هُوّة بين الطبقات، ما جعلني غير راغب في الخروج من هذا الموضوع. كان مثل نافذة لا أحبّ أنْ أُغلقها.

 

(*) هل كان لطفولتك أثر في هذا الاختيار؟

كانت طفولتي سعيدة جداً: أب وأم حنونان، لديهما 4 أولاد. كنا نعيش في مستوى جيد. كنا عائلة متينة. الأب والأم يعملان في التعليم. أحياناً يتعرّضان لمشاكل مادية. لكنّ أبي حريص على مكانة الأسرة، يحمي أطفاله، ويُصرّ على تعليمهم. هذا كله لا يعني أنّي لم أكن أرى الآخر حولي.

 

(*) مثلاً، فيلم "صباط العيد" (2012) مُستلهم من طفولتك.

"صباط العيد" تجربة ذاتية تقريباً، عن طفل يُريد شراء حذاء العيد، لكنّ والده غير قادر على شرائه له. رأيت الحذاء في واجهة محلّ، وأخبرت والدي أنّي أريده. شكله جميل. دخل والدي المحلّ، وبقيت واقفاً خارجه. كنت أراه من خلف الزجاج، يتصبّب عرقاً في مفاوضته مع البائع. كنت فرحاً به، فهو يدافع عن حلمي. لكنْ، في هذه اللحظة، تذكّرت الأطفال أصدقائي، الذين لن يستطيع آباؤهم شراء "حذاء" لهم.

 

(*) لماذا اخترت أنْ يكون "قدحة.. حياة ثانية" روائياً؟

أتناول الوثائقي كتناولي الروائي. أنتقل إلى الروائي فقط عندما يصبح التصوير خطراً على الأطفال. السبب أخلاقي. بالإضافة إلى أن الصورة في الروائي أكثر جمالية، لأنّي أصوّر بكاميرا 35 ملم. وهناك ممثلون، واهتمام بالتصوير والكادر.

 

(*) قدحة، بطل الفيلم، طفل يبلغ 12 عاماً، واسمه يعني شعلة. هرب والده في هجرة غير شرعية، بسبب الظروف الاقتصادية، وتركه مع أمه وأخته الصغيرة غارقين في الديون، فاضطرت الأم إلى بيع كلية ابنها. كيف ولدت الفكرة؟

ولدت من صورة الطفل السوري الكردي دايلان، الذي غرق في قوارب الهجرة عام 2015 مع والده، وهزّ غرقه العالم. لذلك، كنت أُصرّ على وضع صورته في لقطات فيلمي ليبقى في الذاكرة. كذلك، جعلت البطل يرقد على البحر مثله، في مشهد مماثل، عندما يشتاق إلى والده، ويكتشف الغدر الذي تعرّض له.

 

 

(*) شخصية الأم بوركينا مميّزة جداً، ويصعب نسيانها. كيف اخترتها لهذا الدور؟

هي ليست ممثلة. اسمها الحقيقي أم الخير، ولها الحكاية نفسها. تعرّضت لخيانة زوجها، الذي تركها مع أولادها الثلاثة، وهاجر من دون أنْ يقول كلمة. حكايتها صعبة، لأنّ الواقع أقسى من الدراما والسينما. حاولت الاقتباس منها فقط. كان يُمكن هذه المرأة أنْ تصبح أي شيء لتُنفق على أولادها. هناك نساء قتلن أطفالهن. حكت لي أم الخير حكايتها، ثم زرتها، وتعرّفت إلى أطفالها، كانوا في منتهى الجمال. زارتني وتعرّفت إلى أسرتي. أخذت تفاصيل من شخصية ابنتها الكبرى، التي عاشت القصة، لكنّي وضعتها في شخصية قدحة. عندما قمت باختيار الشخصيات، أخذت الكثير من حياة ياسين.

 

(*) كيف التقيت ياسين، بطل "قدحة"؟

صدفة. كان برفقة أخيه، المُرشّح للكاستينغ. كان يبدو لي طفلاً هشّاً ضعيفاً. هشاشته الصعبة جذبتني إليه، فالتقيته، وأجريت معه حواراً طويلاً، والتقطتُ له صوراً كثيرة، ما جعلني أتعلّق به أكثر، فهو بسيطٌ جداً في تفكيره. بساطة كانت مهمّة بالنسبة إليّ، ففي ظلّها أمكنني التعامل معه. لو كانت شخصيته معقّدة، كنتُ سأخاف منه، لأنّه سيبدأ تشغيل العقل. بعد ذلك، تعرّفت إلى والديه، وتناولنا الفطور بصحبة أبي، حتى يكون اللقاء عائلياً، فأخلق الثقّة بسرعة.

 

(*) البتر موجود كثيراً في أفلامك، وإن بشكل مخالف للموروث التونسي. لماذا؟

في بعض أفلامي، أستخدم البتر، أو "الطهارة"، كمُعادل للانتقال من مرحلة إلى أخرى، كما في "صابة فلوس" (فيلم قصير للأسود مُنجز عام 2006 ـ المحرّر)، حيث الانتقال من آخر مرحلة في الطفولة إلى مرحلة ما بعد البراءة. مخرجو السينما التونسية القديمة كانوا يتعاملون بطريقة صعبة مع التراث التونسي والإسلامي، كما في "حلفاوين"، عند النوري بوزيد: الطهارة معادل للإخصاء. لكني أعتبرها جزءاً من تكويني، فكيف أردّها وأجعلها ضدي.

عندي، الطهارة ليست بتراً، بل المرور من مرحلة إلى أخرى. لذا، لا أستخدم فعل الطهارة ضد مفهوم الثقافة.

 

(*) للبتر صُور أخرى في "قدحة".

أجل، لأنّ البتر موجود عند قدحة وأسرته، فهم محرومون، مادياً وعاطفياً، من الأب. البتر موجود أيضاً عند الكبار في العائلة الأخرى، فطفلها يحتاج إلى كلية، ومُعرّض للموت، رغم الثراء. لذلك، يحاولون إنقاذ حياته بأيّ شكل، فيأخذون قطعة من جسد قدحة، ويعطونه منزلاً وبيتاً ومدرسة ومكاناً وأهلاً. لكنْ، في النهاية، هم أخذوا قطعة منه، وما بُني على باطل، هو باطل.

 

(*) ماذا عن مشاريعك المقبلة؟

أعمل الآن على وثائقي، بعنوان "حدود الله" مسألة صعبة في عالمنا العربي. سأحكي عن التجربة التونسية خاصة، التي تختلف عن الوطن العربي، من خلال 3 أطفال. التجربة البورقيبية ألزمت المتبنّي بإسناد اسمه إلى الطفل أو الطفلة المتبنّاة، وهذا مخالف للشرع الإسلامي. نحن عشنا هذه الحالة 60 عاماً. التجربة البورقيبية كانت تحمي الطفولة، بينما الإسلام يحمي النَّسب. اليوم، عندما تتكفّل بطفلةٍ، وتقوم بحمايتها، أولاً: أنت لا تختار طفلة مُعوّقة، بل جميلة. هذه الطفلة تناديك "بابا بابا". لكنْ، غداً، عندما تكبر وتصبح فتاة جميلة مثيرة، وتشتهيها، يُمكنك الزواج بها. لذلك، تشتكي الأمهات، ويستعنّ بالمرشدات الاجتماعيات، قائلةً: "زوجي يتحرّش بابنتي" وتبدأ المشاكل الاجتماعية.

المساهمون