استمع إلى الملخص
- المعرض في متحف كوبر هيويت بنيويورك يدمج بين الفن والصحافة والعمارة، ويقدم تجربة بصرية ووجدانية تعكس حجم الدمار، مع رسوم بانورامية وإحصاءات دقيقة تربط الأرقام الجامدة بالوجوه الإنسانية.
- يثير المعرض تساؤلات حول تدمير البيوت في الحروب الحديثة، مسلطاً الضوء على الهوية والذاكرة والعلاقات الإنسانية، ويثير شعوراً بالمسؤولية تجاه الحروب والسياسات وصناعات السلاح الغربية.
لا يقتصر ألم الحرب على فقد الأحبّة وحدهم، بل يمتد ليشمل ضياع الذكريات التي يجسّدها المكان: البيت، والحي، وكل ما يُختزل من تفاصيل الحياة اليومية. لكن ماذا لو أُتيح للضحايا أن يستعيدوا هذه الذكريات، أو على الأقل أن يروها مجسّدة أمام أعينهم من جديد؟ هذه هي الفكرة التي انطلقت منها الصحافية البريطانية من أصل عراقي منى شلبي في مشروعها الممتد الذي استضافه أخيراً متحف كوبر هيويت للتصميم التابع لمؤسسة سميثسونيان في نيويورك. في هذا العرض متعدّد الوسائط، يقف الزائر أمام مشهد غير مألوف لثلاثة بيوت مهدّمة عادت إلى الوجود، لكن في هيئة نماذج معمارية صغيرة محمّلة بالذاكرة والحنين.
المعرض الذي يحمل عنوان "أنماط الحياة" (Patterns of Life) يشكّل جزءاً من بينالي التصميم لهذا العام تحت شعار "صناعة البيت"، مقدّماً تجربة بصرية ووجدانية تستحضر ثلاثة منازل في غزة والموصل ومنبج، جميعها سوّيت بالأرض بفعل القصف العسكري خلال العقد الأخير. الفكرة التي صاغتها شلبي بالتعاون مع فريق التحقيقات البصرية في مؤسسة SITU Research تقوم على إعادة تشييد تلك البيوت من خلال شهادات أصحابها وصورهم العائلية وذكرياتهم، إضافة إلى صور الأقمار الاصطناعية والأرشيف.
النتيجة هي نماذج معمارية مُفصّلة، تحوي أثاثاً مصغّراً ورسومات مطبوعة على أقمشة شفافة، تحاكي ما كان موجوداً داخل البيوت قبل أن تتحوّل إلى ركام. إنها ليست مجرد نماذج صامتة، بل بيوت تستعيد أنفاسها عبر التفاصيل الصغيرة: وحدات إضاءة خضراء لامعة، وستائر اعتادت ربة البيت أن تذكّر زوجها بتنظيفها، أو رائحة ياسمين تفوح عند فتح الباب.
من بين هذه النماذج، يظهر منزل عائلة باسم في الموصل الذي دمّرته غارة جوية عام 2015، لتودي بحياة زوجته وابنته وعدد من أفراد أسرته. حين وقف باسم أمام مجسّم بيته في المعرض، استطاع التعرّف إلى بوابته الرخامية الواسعة ونوافذه الكبيرة، وعلى الراديو القديم الذي كان يحتفظ به في غرفة النوم. بدا المشهد بالنسبة إليه كما لو أن البيت بُعث من جديد، لكن في هيئة شبحية شفافة تذكّره بملكيته التي سُلبت منه ذات ليلة.
التجربة نفسها عاشها محمد عثمان من مدينة منبج السورية، الذي فقد منزله في قصف عام 2016. أكثر ما أثار مشاعره في النموذج المعروض هو قطعة أثاث خشبية صنعها والده يدوياً، وكانت تحتل مكاناً بارزاً في غرفة المعيشة. كذلك ظهرت مكتبته التي كانت تحتضن مؤلفات في الأدب العربي والإسلامي، وقد أُعيد تجسيدها بدقة لافتة.
أما البيت الثالث، فهو في غزة، لأسرة فضّلت عدم الكشف عن هويتها خوفاً على سلامتها. يرمز هذا النموذج إلى آلاف البيوت الفلسطينية التي دمّرها جيش الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه الأخير، ما أفقد الغزيين أكثر من 90 بالمائة من مساكنهم، بحسب تقارير دولية. هنا، يقدّم المعرض مشهداً مضاعفاً من الألم، إذ يختصر مصير مدينة كاملة عبر بيت واحد مجهول الاسم، لكنه مكتظ بالذكريات والأثاث البسيط الذي يشبه آلاف البيوت الأخرى.
المعرض لا يكتفي بتقديم النماذج الثلاثة، بل يحيطها بجدران مغطاة برسوم بانورامية للمدن الثلاث: غزة، والموصل، ومنبج. الرسوم نفّذتها شلبي بخطوط وألوان متدرّجة بين الحيّ والرمادي الباهت، ليظهر الجزء الملوّن رمزاً لما تبقّى من العمران، بينما تمثّل المساحات الباهتة حجم الخراب والدمار. إلى جانب كل عمل، تُعرض إحصاءات دقيقة عن نسب البيوت المدمّرة في كل مدينة، لتربط بين الأرقام الجامدة والوجوه الإنسانية التي خلفتها.
اللافت في التجربة أنها تمزج بين الفن والصحافة والعمارة في آن. فالمنهجية التي اعتمدها فريق العمل استندت إلى مقابلات مطوّلة مع الناجين، مدعومة بوسائل التحقيق مفتوح المصدر مثل صور الأقمار الاصطناعية، بهدف إعادة بناء البيوت بأكبر قدر من الدقة. لكن الجانب الفني ظلّ حاضراً بقوة، سواء في اختيار الأقمشة الشفافة التي تحمل رسومات الأثاث، في إشارة إلى هشاشة الذاكرة، أو في محاولات استحضار الروائح عبر زيوت عطرية تعبق في أرجاء القاعة. إنها محاولة لإحياء البيت ليس بصورته المادية فحسب، بل بحواسه الخمس التي شكّلت ذاكرة ساكنيه.
المعرض يثير سؤالاً أكبر من مجرد استعادة بيوت بعينها، حول معنى أن يُدمَّر البيت في زمن الحروب الحديثة. البيت هنا ليس جداراً وسقفاً فحسب، بل هو امتداد للهوية والذاكرة والعلاقات الإنسانية، وحين يُمحى، تُمحى معه قطعة أساسية من الكيان الفردي والجماعي.
بهذا المعنى، لا يقدّم معرض "أنماط الحياة" مجرد توثيق للخراب، بل يسعى إلى إعادة الاعتبار لما يُمحى عادة من الصورة الإعلامية، مثل التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية التي تختفي خلف مشهد الركام. ففي حين تلتقط الكاميرات صور البيوت المنهارة، يذكّرنا هذا المعرض بأن وراء كل جدار مهدّم قصة عن حياة عادية: عن ستائر كانت ترفرف في نسيم الصباح، وعن زهرة ورد زرعها ربّ البيت في فناء منزله.
العرض يثير شعوراً بالمسؤولية والذنب تجاه حروب بعيدة تساهم فيها السياسات وصناعات السلاح الغربية. إنه تذكير بأن الخرائط العسكرية التي تحدّد أنماط الحياة في البيوت قد تخطئ في التقدير، لكنها تنجح دوماً في تحويل الحياة إلى موت، والبيوت إلى أطلال.