أم كلثوم والأتراك... غناء ضد التغريب

09 فبراير 2025
من حفل باريس عام 1967 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يسلط الكتاب الضوء على تأثير أم كلثوم على الأتراك، مستندًا إلى الأرشيف الصحافي التركي وشهادات معاصري الأحداث، في ظل حظر كمال أتاتورك للموسيقى الشرقية.
- يوضح الكتاب كيف ساهمت إذاعة القاهرة والسينما المصرية في انتشار الموسيقى العربية في تركيا، مما عزز شهرة أم كلثوم كرمز ثقافي.
- يعرض الكتاب تأثير أم كلثوم على المجتمع التركي، من خلال شهادات الفنانين ومحاولات التواصل معها، مما يعكس تأثيرها الثقافي العابر للحدود.

يكتسب كتاب "أم كلثوم والأتراك"، لمراد أوزيلدريم، أهميته من ثلاثة جوانب: الأول، توقيت صدوره، الذي يأتي مواكباً لخمسينية رحيل كوكب الغناء، والثاني، موضوعه الذي يكشف عن تأثر الأتراك الكبير بالغناء المصري عموماً، وبأم كلثوم خصوصاً، والثالث، مادته التي أخذت شكلاً توثيقياً يعتمد في الأساس على الأرشيف الصحافي التركي، أو على شهادات مهمة ينقلها عن معاصري بعض الأحداث الفنية.

ومن خلال الأرشيف والشهادات، يروي الكتاب قصة تعرف الأتراك إلى أم كلثوم، ومدى إعجابهم بصوتها وغنائها في إطار العلاقات الموسيقية التفاعلية بين الأتراك والعرب. ويوضح الدور الكبير للإذاعة المصرية في إشباع نهم المستمع التركي إلى الموسيقى الشرقية بعد الحظر السلطوي الذي فرضه كمال أتاتورك عليها. صدر الكتاب في صيغته العربية بترجمة مشتركة للشاعر المصري أحمد زكريا، والمترجمة التركية ملاك دينيز.

ويمثل الكتاب إضافة بحثية مهمة يستكمل بها المؤلف كتابه "وَحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" الذي صدر منذ سنوات، ويقدم أوزيلدريم كتابه باعتباره دراسة عن حبِّ الأتراك لأم كلثوم، ومدى تأثير مطربة العرب على الحياة الموسيقية التركية، فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كان الأتراك أكبر المعجبين بأم كلثوم في الشرق الأوسط بعد العرب، إذ تعرفوا إلى صوتها عبر الإذاعة أولاً، ثم عبر أفلام السينما، التي أوصلت جماهيرية النجمة المصرية إلى ذروتها، ثم تعرفوا إلى سيرتها الفنية من خلال اهتمام الصحف التركية بها وبنشاطها الفني.

خلال عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، بدأت السلطات التركية باتخاذ إجراءات متوالية تستهدف القضاء على الموسيقى الشرقية الكلاسيكية التي كان للأتراك إسهام ضخم في بنائها. ففي عام 1925، أغلقت الزوايا والتكايا، وهي -في رأي المؤلف- من مراكز نشر الذوق الموسيقي الإمبراطوري، فلحق ضرر بالغ بالموسيقى التركية.

في العام التالي، أغلقت دار الألحان بقرار إدارة التعليم، واستبعدت الموسيقى التركية ذات المقامات من التعليم في المؤسسات الرسمية التركية لمدة خمسين عاماً. ثم مُنع رفع الأذان باللغة العربية، وأصبح "الأذان التركي" إلزامياً، وأصبح تدريس القرآن الكريم باللغة العربية محظوراً. يلفت المؤلف الانتباه إلى أن النقاشات في الصحافة كانت تتناول المسألة من باب "التقدمية والرجعية" لا مجرد ذوق فني.

وينقل المؤلف عن ضياء جوك ألب في كتابه (مبادئ القومية التركية) قوله: "إن الأغاني الشعبية فقط هي التي تنتمي إلى الثقافة التركية. فالموسيقى التركية الكلاسيكية، التي تسمى الموسيقى الشرقية، تنتمي إلى الحضارة القديمة وهي أيضاً غير وطنية فهي بيزنطية - عربية.

يتوقف المؤلف أمام تلك المفارقة العجيبة، ففي الوقت الذي يرى فيه التغريبيون الأتراك أن الموسيقى التركية الكلاسيكية ليست وطنية، وأنها دخيلة، جاءتهم من بلاد العرب، ومن مصر خصوصاً، كان لهذا التيار نظير في العالم العربي، يرى أن الموسيقى القديمة ليست مصرية وأنها وفدت إليهم من الأتراك، بسبب هيمنة العثمانيين على البلاد الإسلامية.

وينقل المؤلف عن عالم الاجتماع التركي نيازي بيركس (1908- 1988) قوله إن أطروحات أنصار الموسيقى الغربية في مصر هي أطروحاتنا نفْسها. هناك فرق واحد فقط مثير للاهتمام. يقولون لدينا إن الموسيقى القديمة ليست موسيقى تركية، بل جاءت من العرب، ويقول المثقفون المصريون عكس ذلك: "هذه الموسيقى ليست موسيقانا الوطنية، بل جلبها الأتراك".

في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1934، شن أتاتورك هجوماً شديداً على الموسيقى الشرقية الكلاسيكية في خطابه أمام البرلمان التركي. وفي اليوم التالي، أبلغت وزارة الشؤون الداخلية، الجهات ذات الصلة بأنها ستحذف الموسيقى التركية تماماً من البرامج الإذاعية اعتباراً من هذا المساء، وأن المقطوعات الغربية ومقطوعاتنا الموسيقية الوطنية فقط هي التي سيعزفها فنانون على دراية جيدة بالتقنيات الغربية". وخلال أيام، امتد الحظر إلى الكازينوهات والأماكن العامة.

في ظل هذه الأحداث، كانت شهرة أم كلثوم تتسع تدريجياً. يشير المؤلف إلى أن الحفلات التي أحيتها المطربة المصرية في دمشق وبيروت وبغداد عام 1932، مكنت من انتشار شهرتها خارج مصر في وقت قصير. لكن إذا كان هناك عدة أسباب وراء بدء متابعة أم كلثوم في تركيا وتشكيل قاعدة جماهيرية لها خلال فترة مبكرة، فإن أهم هذه الأسباب هو حظر الموسيقى التركية على الراديو في تركيا. يقول مراد بردقجي: "أصبحت الأغاني العربية تُسمع في المنازل بدلاً من الموسيقى التركية. وكانت إذاعات القرآن الكريم في القاهرة من أكثر البرامج استماعاً".

يحشد المؤلف قدراً كبيراً من النقول الصحافية التي ترصد تصاعد اهتمام الأتراك بإذاعة القاهرة، وفي خبر بعنوان "أم كلثوم.. بلبل الإذاعة المصرية" في مجلة يِدِيجون نُشر بتاريخ 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1936، جاء فيه أن "أم كلثوم ستبدأ التمثيل في الأفلام الصوتية، وستحصل على شهرة مثل التي اكتسبها في الإذاعة في هذا المجال أيضاً".

لكن اللافت للانتباه هو الجملة الأولى من الخبر التي تقول: "مَن يدري كم مرة استمعتم فيها إلى أم كلثوم، الصوت الكريستالي لإذاعة القاهرة؟ إنها تُطرب الناس بصوتها المتلألئ، وبألحانها الرشيقة التي تسحر النفوس". ويؤكد أن الأتراك يستمعون إلى الإذاعة المصرية، بل إنهم معتادون على الاستماع إليها، ومولعون بأم كلثوم.

وقدمت مجلة يلديز بتاريخ 1 ديسمبر 1940 أم كلثوم لقرائها في مقال بعنوان "أم كلثوم: بلبل الشرق"، بقلم سلامي منير يورداتاب، وفيه يقول: "قم بتشغيل إذاعة القاهرة ظهراً في أحد الأيام. ستسمع بالتأكيد أحد تسجيلاتها. استمع لهذا الصوت مرة واحدة. استمع بعناية. فهذا يعني أنك قابلت أم كلثوم". 

يرى المؤلف أن الحفلات التي أحيتها أم كلثوم في أول خميس من كل شهر على مدى ستة وثلاثين عاماً، كانت عرضاً منفصلاً للقوة الناعمة وإظهار قيمة الهيمنة الثقافية التي تتمتع بها مصر في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفوق ذلك، كانت الإذاعة المصرية هي المحطة الإذاعية الأكثر استماعاً في الشرق الأوسط في سنواتها الأولى.

لذلك، وبكلمة أخيرة في هذا الموضوع، دعونا نذكر أن الرابح الوحيد من حظر الموسيقى التركية، الذي استمر لمدة عامَين على الإذاعات التركية، هو الإذاعة المصرية، بتلاوتها للقرآن الكريم وعرض أعمال الموسيقى الشرقية لأم كلثوم. لقد تمكنت مصر من التأثير على العالم العربي بأكمله -وحتى جزئيّاً في تركيا- من خلال بث موسيقاها عبر الراديو. الإذاعة المصرية لم يكن لها مثيل في الشرق الأوسط.

مع حظر الموسيقى التركية في الراديو، تابع الناس في تركيا حفلات أم كلثوم من خلال أجهزة الراديو الخاصة بهم والمضبوطة على الإذاعة المصرية، ومَن لا يستطيع الوصول إليها، اشترى أسطوانات الفنانة. ظهر اسم أم كلثوم في الصحف والمجلات، وأحياناً مع صورها. كانت الإذاعة المصرية تجمع الجماهير في البيوت والمقاهي بصوت أم كلثوم.

يتوقف المؤلف مطولاً أمام الأثر الكبير للسينما المصرية على المجتمع التركي، الذي عرف الأفلام المصرية منذ الثلاثينيات، ويشير إلى النجاح الساحق لفيلم محمد عبد الوهاب "دموع الحب".

وقد وجد فيلم "وداد" الذي عُرض أيضاً في دور السينما التركية، مكاناً له في دور السينما لفترة طويلة، كما يتضح من إعلانات الصحف. يقول مراد بردقجي: "بدأ الاهتمام بإذاعة القاهرة والاهتمام بالموسيقى العربية يأخذ اتجاهاً آخر في تركيا بعد بضع سنوات، مع الأفلام المصرية. وقبل سنوات قليلة من ذلك التاريخ، أصبح التصوير السينمائي صناعة كبيرة في مصر، مع التركيز خصوصاً على إنتاج الأفلام الغنائية. وأصبحت الأفلام الأكثر شعبية في الشرق الأوسط الآن هي الأفلام المصرية". 

في إعلان بتاريخ 26 سبتمبر/أيلول 1939، المنشور في صحيفة جمهوريت، يساعدنا على فهم التأثير الاستثنائي للفيلم، نقرأ ما يلي: "الأبواب تنكسر.. الناس يهاجمون.. حشد مهيب يقتحم سينما تقسيم.. لأن فيلم "نشيد الأمل" لأم كلثوم، ملكة الغناء الشرقي، يحطم الرقم القياسي كما لم يحققه أي فيلم من قبل".

كما نشرت صحيفة صون بوست وصحيفة جمهوريت إعلان سينما تقسيم في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1939: "نجاح لم يتمكن أي فيلم آخر من تحقيقه. انتصار لم يتمكن أي فيلم تركي من تحقيقه. ملكة الغناء الشرقي التي تثير وتبهر الجمهور: أم كلثوم، بلبل الشرق. هناك عشرات الآلاف يركضون من كل ركن من أركان إسطنبول لمشاهدة فيلمها "نشيد الأمل" بكلمات تركية وأغانٍ عربية".

وتقدم مجلة يني مجموعة بتاريخ 23 فبراير/شباط 1940 موضوعاً مصوراً كبيراً عن أم كلثوم تقول في مقدمته: "إن أم كلثوم، المغنية المصرية الشابة التي تصادفون صوتها الحارق والسحري في بعض الليالي ولا يمكنكم تركه، هي إلهة الصوت التي أثَّرت في العالم الإسلامي كله من الهند إلى داخل أفريقيا".

من الممكن قراءة أحاديث عدد من الفنانين الأتراك عن أم كلثوم في مختلف الصحف والمجلات في تلك الفترة. أول مثال معروف حول هذا الموضوع هو لنيزن توفيق، ونُشر في صحيفة جمهوريت بتاريخ 1 ديسمبر 1930: "ليخلق لنا الشرق أم كلثوم أخرى، وسأتوقف عن عزف الناي!". لاحظ نيزن توفيق كولايلي، جمال صوت أم كلثوم عام 1930 ووضعها في مكان فريد من نوعه في الشرق كله. 

أجرت مجلة راديو رَسِمْلِي بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 1951 مقابلة مع المطربة التركية هاجر بولوش (1926 - 2014)، وقالت الفنانة: "أنا شخصيّاً من عشاق أم كلثوم. إذا أُتيحت لي الفرصة فسأذهب إلى مصر، وأتعرف على هذه الفنانة المسماة بلبل الشرق".

ومن اللافت، أن أم كلثوم كانت منفتحة على الغناء التركي، وحين سألها الصحافي أحمد نديم جللي: "مَن تحبين من الفنانين الأتراك؟" فكَّرت هنيهة، ثم فاجأت الصحافي بإدراج عدة أسماء، وقالت: "منير نور الدين بك، وصفية هانم، ومُزيَّان هانم، وبريهان هانم، وأحمد يطمان". 

في العدد الـمُخصَّص لبريهان ألتنداغ من مجلة رَسِمْلِي راديو دُنيَاسي، الذي صدر عام 1951، نُشر أيضاً مقال عن شهرة أم كلثوم في تركيا، ومما ورد فيه: "لا يوجد مَن لا يعرف اسم أم كلثوم في بلدنا الذي راجت فيه الأفلام الشرقية".

كانت أخبار قدوم أم كلثوم إلى تركيا تظهر في المجلات والصحف بين وقت وآخر. وقد نشر تقرير حول هذا الموضوع، يشير إلى منع بث الأغاني العربية في الإذاعة التركية، في مجلة راديو هافتاسي بتاريخ 29 يوليو/تموز 1950: "تم تأكيد أن ملكة الغناء المصرية أم كلثوم ستأتي إلى إسطنبول في شهر مارس/آذار. لقد بدأ المعنيون فعلاً بالتفاوض حتى تتمكن أم كلثوم من تقديم حفل موسيقي استثنائي على إذاعة إسطنبول. ومن المتوقع بقوة أن تقوم الإدارة العامة للصحافة والنشر برفع الحظر عن غناء الأغاني العربية في إذاعاتنا".

يخلص المؤلف إلى أن الأتراك من أبناء المدن على وجه الخصوص، كانوا قادرين على الإحساس بألحان أم كلثوم، وسرعان ما أدركوا جمال صوتها، وإن لم يتمكنوا من فهم ما تقوله. سيشعر قارئ الكتاب سريعاً بمدى الجهد الذي بذله المؤلف في التتبع والمقابلات، كما أن صياغة المُترجمَين تساعد على قراءة مريحة وممتعة، لذا، يمثل الكتاب واحداً من أهم أشكال الاحتفاء بذكرى أم كلثوم الخمسين.

المساهمون