استمع إلى الملخص
- تأثر الموسيقيون مثل ألكسندر سكريابين بالتحولات الفكرية، حيث استلهم مفهوم الزمن في أعماله الموسيقية لتحدي الزمن الخطي التقليدي.
- استخدم سكريابين تقنيات موسيقية مبتكرة مثل "السلم الصوفي"، لخلق توتر مستمر وتجربة موسيقية تدمج الواقع بالحلم، مستلهماً من إرث ريتشارد فاغنر.
منذ اختراع الكاميرا في عام 1839 وشيوع استخدامها بين الناس، حفّز مفهوم "اللقطة الضوئية" المفكّرين والمبدعين على التأمل بماهية الزمن على نحو لم تعهده البشرية منذ سواد الحداثة أول القرن السابع عشر؛ إذ بدأت تتهيأ للأذهان إمكانية تثبيت الزمن بصفة شبه فورية وشبه أزلية، عن طريق طبعه خيالاً على شريط فيلمٍ أو لوح أملس مصنوع إما من معدنٍ أو من زجاج.
ترافقت الكاميرا بتسارع غير مسبوق لوسائل النقل والاتصال، من قطارٍ بخاريٍّ أو سيارة وتخابر شبه آني عن بعد بفضل أسلاك التلغراف. وبدلاً من أن تقتصر الثورة التكنولوجية في الغرب آخر القرن التاسع عشر على غمر روح العصر بتصوّرٍ للزمن، ينحصر ضمن التقني والوظيفي، أخذ فلاسفةٌ من أمثال هنري بيرغسون وشعراءٌ رمزيون مثل مالارميه وريلكه، ينشدون زمناً صوفيّاً لا تأريخيّ، لا يمضي قدماً وأبداً، وإنما معاشٌ باستمرار، يمكن اكتنازه واختباره واعتباره في لحظة، هي أمد التجربة الشعورية، باتت تُقاس بطول مدّة التحديق في صورة فوتوغرافية.
من الموسيقيين ممن عاشوا تلك النقلة المعرفية والتكنولوجية وتأثّروا بمخرجاتها الفكرية والروحية، المؤلف وعازف البيانو الروسي ألكسندر سكريابين (Alexander Scriabin) الذي مرّت أمس ذكرى رحيله العاشرة بعد الـ100. ولئن عُرف لأهل الاختصاص بمقطوعاته الخاصة بآلة البيانو المنفردة، والتي ما انفكت تعد محكّاً أدائياً لعمقها النظري وتعقيدها التقني، فإن مقطوعته المعدّة لفرقة سيمفونية كاملة والمعنونة قصيدة الوجد (Le Poèm de ľextase) تعدّ تحفة سمعية نادرة، ونموذجاً أوركستراليّاً ساحراً على استلهام الزمن ليس بوصفه أمداً، إنما حال خبرويّة تتجاوز الأمد إلى الأبد.
تزامن إنجاز ألكسندر سكريابين للمقطوعة، التي تتبع تصميماً متّصلاً وحرَّ الشكل سُمّي بالقصيدة السيمفونية، مع فترة انخراطه بين عامي 1905 و1908 بالمجتمع اللاهوتي-الفلسفي (Theosophical Society) وهي حركة دينية باطنية جديدة نشأت في الولايات المتحدة، في مدينة نيويورك، قاربت وقابلت ما بين الفلسفة الغربية بأصولها الشرق متوسطية الإغريقية والرومانية، وطرق التصوف المسيحي والإسلامي، إضافةً إلى أديان الشرق الأقصى.
بموافقة المؤلف، طُبع نصّ تعريفيّ في كُتيّب الحفل الذي شهد تقديم المقطوعة لأول مرة، جاء فيه: "حين تكون الروح قد بلغت أوج نشاطها الأعلى، وانشقّت عن اعتناقات اللاهوت والنسبية، حين تكون قد استنفدت بالكامل جوهرها وطاقتها النشطة المُعتقة، يكون وقت الوجد قد حان". بغية التقاطٍ موسيقيٍّ لتلك اللحظة العارمة، كان على ألكسندر سكريابين أن يحتال على الزمن الخطّي، الذي يقتضي أن يكون لأي قطعة موسيقية بداية ثم مدّة، فنهاية، بأن يُبدع حلولاً مُميّعة للزمن، تفقده قوامه واتّساقه إلى أن ينخسف، فتتناهى قصيدته السيمفونية الممتدة على نحو 24 دقيقة كما لو استغرق سماعها ثانية.
شملت حلول ألكسندر سكريابين عنصرَيّ الموسيقى الأوليّين: النغم والإيقاع. لأجل الأول استحضر ائتلافاتٍ بين الأنغام، تحيّر الأذن وتحرمها من أي قرار، يمن على المُستمع بالثبات والاستقرار على نهجٍ خطّي، يعبر بالمشاعر من نقطة شعورية إلى أخرى. بدلاً من ذلك، جعل النفس تهيم في غيهب من أنغام متنافرة متجاذبة، توحي بالهلوسة، التي شاع استلهامها بين الشعراء والفنانين آنذاك مع انتشار تعاطي الأفيون في الحواضر الأوروبية الكبرى مطلع القرن العشرين.
كان البحث عن تشكيل نغميّ محيّر، لا يشي ببلوغِ أي عتبةٍ شعوريةٍ، قد شغل المؤلف طويلاً، لا سيما في أعماله للبيانو، والسوناتا الخامسة مثالٌ على ذلك. لأجل قصيدة الوجد، استخدم ما أطلق عليه "السلم الصوفي" الذي يُعرف موسيقياً باسم "سلّم الأبعاد الكاملة"؛ إذ بينما اقتضى العرف السمعي والفطرة البشرية أن تحتوي أي سلسلة من الأنغام على مسافة ضيّقة بين نغمتين، تسمّى "فاصلة نصف بعد" تدفع اللحن تلقياً إلى الالتحام بنغمة ملاصقة، فتنشأ عنهما فاصلة هارمونية سائغة مريحة للدماغ والجملة العصبية، فإن ألكسندر سكريابين باعتماده سلّماً خالياً من أنصاف البعد، حرم الأذن عن عمد، من الاطمئنان إلى سير المقطوعة لتمضي وفق اتجاه يتحدّد بأنصاف البعد، سيؤدي بالموسيقى إلى عتبة شعورية جديدة، ينحل عندها التوتّر.
حرمان المستمع الانتقال من عتبة شعورية إلى أخرى والإبقاء على الأذن معلّقةً، إنما يأتي استكمالاً لسيرورة موسيقية تطوريّة، حدّدها مؤلّف الأوبرا الرومانسي الألماني ريتشارد فاغنر، الذي كان لإرثه ورؤيته عظيم الأثر على سكريابين وجلّ مجايليه من المؤلفّين، لا سيما دعوته إلى "الفن الشامل" (Gesamtkunstwerk) الناتج عن جماع جميع وسائط التعبير من أدب ومسرح وموسيقى؛ بتسخيره للموسيقى مسرحيّاً في خدمة التشويق الدرامي، ابتكر فاغنر ائتلافات نغمية تأبى الانحلال، فالاستقرار، وعليه تُبقي الأعصاب مشدودة على طول المشهد.
ما كان من ألكسندر سكريابين إلا أن استورد اللغة الموسيقية الفاغنرية، ليس ليشدّ المستمع إنما ليُنشيه، مُلقياً به في لايقينٍ سرمديّ، يندثر فيه الواقع وتمتزج آثاره بالحلم، ما يؤدي إلى انفكاك الزمن، ذاك القيد المُحكم حول عنق الحياة، فتغدو لوهلة بلا أمد، بلا ولادة ولا موت، لا بداية ولا نهاية.
لجهة الإيقاع، استعان سكريابين بتشكيلات لولبيّة، جعلت الجمل الموسيقية في حال نواسٍ مستمر ما بين الانبلاج والاضمحلال. وقد أشار إلى تلك الثنائية في قصيدة طويلة بالروسية، كتبها، لا لتُتلى برفقة الموسيقى، إنما لتبقى نصاً لغوياً رديفاً للعمل الموسيقي. كان قد تحدث فيها عن "حدس الإيقاع المعتم" و"حدس الإيقاع المُشعّ" وكيف تتمخّض عنهما "موجة وحيدة من حرية وفرح".