استمع إلى الملخص
- رغم ضياع معظم ألحانه، تم إنقاذ بعض المسرحيات مثل "ياسمينة" و"عزيزة ويونس" عبر التسجيل الإذاعي، وتميزت ألحانه بالتعبيرية والدرامية.
- توقف عن التلحين المسرحي في الثلاثينيات بسبب تراجع المسرح، لكنه أثر بشكل كبير في تطوير الغناء العربي بأسلوب تعبيري مميز.
لا يعرف التاريخ الموسيقي المصري ولا العربي ملحناً أعطى المسرح الغنائي قدر ما أعطاه الشيخ زكريا أحمد. المعيار الكمي فقط يضع الشيخ في الصدارة، متفوقاً على كل أعلام الموسيقى في القرن الماضي، بمن فيهم الرواد الذين سبقوه، أو النظراء الذين عاصرهم الرجل.
لا أحد خلّف 56 مسرحية، تتضمّن في مجموعها ما يقترب من 600 لحن. تجاوز الشيخ زكريا أحمد بألحانه المسرحية مجموع ما تركه سيد درويش وسلامة حجازي وداود حسني وكامل الخلعي ومحمد القصبجي من هذا اللون الغنائي. فمنذ عام 1924، انطلق الشيخ كقطار إمداد وتموين، ليوفّر للفرق المسرحية التي نشطت في القاهرة ألحاناً جماهيرية، تتفجر طرباً، مع اتساقها في كثير من الأحيان مع السياق التمثيلي.
قدم زكريا أحمد (رحل في 15 فبراير/ شباط 1961) ألحانه لعدد من أهم الفرق المسرحية، وفي مقدمتها فرقة علي الكسار، وزكي عكاشة، ومنيرة المهدية، ونجيب الريحاني، وفاطمة رشدي، لكن يبدو أن جانباً كبيراً من هذا الإبداع اللحني قد ضاع بصورة نهائية، ولم يعد هناك سبيل إلى إدراكه، لأنه لم يحظ بأي وسيلة من وسائل الحفظ، لا بالتسجيل ولا بالتدوين.
وبالرغم من أن نصوص معظم هذه الأغاني المسرحية معروفة ومتاحة في مصادر مطبوعة، فإنها تبقى مجرد نصوص، لا أحد يعرف كيف تعامل معها الشيخ زكريا أحمد تلحينياً، ما جعل قيمتها محصورة في العد الإحصائي، للإحاطة بالكم، مع غياب الجانب الكيفي أو الإبداعي غياباً كلياً.
ومن أمثلة تلك النصوص، كل أغاني مسرحية "الغول" التي قدمتها فرقة أمين صدقي وعلي الكسار عام 1925، وتضمنت 11 نصاً زجلياً من تأليف بديع خيري، غنى بعضها حامد مرسي ورتيبة رشدي، وبعضها غناه علي الكسار والمجموعة. ومثلها، رواية الطنبورة، التي قدمتها فرقة علي الكسار، ولحن زكريا أحمد نصوص أزجالها، لكنها ضاعت بعدم التسجيل، ثم رحيل حفظة الألحان من المطربين والمطربات، لتتحول المسرحية إلى مجموعة من النصوص الميتة نغمياً.
يفرض ضياع معظم الألحان المسرحية التي صاغها زكريا طرقاً محدودة للحديث عن الجانب المسرحي عند الرجل، ليصبح التناول أكثر عمومية، وأقرب إلى النظر السياقي منه إلى التحليل الموسيقي الصرف. بدأ زكريا أحمد نشاطه في التلحين المسرحي في العام التالي لرحيل سيد درويش، أي بعد أن خلت الساحة من القائد الأكبر للحركة المسرحية التي شهدتها مصر في العقود الأولى من القرن العشرين. صحيح أن الساحة لم تخل من فرسان لهم مكانتهم ووزنهم، لكن الشيخ زكريا أحمد استطاع خلال فترة وجيزة أن يُثبت أنه الوريث الشرعي لسيد درويش، الذي اشتهر بالغزارة الإنتاجية، فيروي قريبه وعضو فرقته حسن القصبجي واقعة طريفة.
يقول: "هبطنا شارع عماد الدين ذات ليلة في رفقة الشيخ سيد، وقصدنا مسرح الريحاني، فإذا بهم يعزفون إحدى أوبريتاته المعروفة، وخرجنا إلى مسرح علي الكسار المجاور، فإذا بهم يعرضون أوبريت أخرى للشيخ سيد، وعلى مقربة كان كازينو دي باري يعرض "العشرة الطيبة"، وخطر للشيخ سيد أن يعرف ماذا يعرض أولاد عكاشة وفرقة منيرة المهدية، فإذا على مسرح الأزبكية أوبريت هدى، وعند السلطانة أوبريت كلها يومين، وكلاهما من تلحينه. وفي صالة الهمبرا كانت السيدة نعيمة المصرية تغني دور "ضيعت مستقبل حياتي"، ثم اقترح الشيخ سيد أن نذهب إلى روض الفرج، فإذا في كل مقهى تخت ومطرب وغناء ورقص. وجميعهم يغنون أعمالاً للشيخ سيد الذي جلجلت ضحكته وهو يخرج من جيبه ثلاثة قروش هي كل ما معه".
كانت هذه الغزارة من أهم ما يميز إنتاج سيد درويش المسرحي، وهي أيضاً أحد أهم الفروق بينه وبين معاصريه من أصحاب تجارب التلحين للمسرح الغنائي، إذ كان يسبقهم جميعاً بما يخرجهم من أي مقارنة معه. وحده زكريا أحمد استطاع أن يقدم حالة مشابهة لدرويش، في غزارتها وثرائها وانتشارها وتعدد الفرق التي تعرض مسرحيات من ألحانه.
لكن نصيب الفرق الغنائية من ألحان زكريا تفاوت كثيراً، فذهب الجانب الأكبر من إنتاج الرجل إلى فرقة علي الكسار، التي قدمت أكثر من 25 رواية تضمت ما يقرب من 300 عمل غنائي بألحان الشيخ زكريا. وكانت أولى هذه المسرحيات عام 1924 بعنوان "دولة الحظ"؛ باكورة إنتاج زكريا في هذا الميدان، مع غض الطرف عن محاولة أقدم، وتحديداً عام 1916، لتلحين مسرحية بعنوان "أبطال نيويورك" لفرقة من الهواة، الذين ينتمون إلى إحدى المدارس الثانوية.
من الفروق الأساسية التي تميز الأغنية التقليدية عن الأغنية المسرحية أن الأولى تستلزم صوتاً جميلاً قادراً على أدائها، ويغلب أن يراعي الملحن القدرة الصوتية للمطرب أو المطربة. لا تستمسك الأغنية المسرحية بهذا الشرط دائماً، فكثيراً ما يكون اللحن فكاهياً، أو موضوعاً للأداء الجماعي، أو مناسباً للبطل الأول الذي يغلب أن يكون ممثلاً معروفاً، لكنه ليس من أصحاب الأصوات الجميلة، مثل علي الكسار أو نجيب الريحاني. لكن أكثر المسرحيات في هذه الفترة كانت تجمع بين الغناء الذي يؤديه المطرب المحترف، وبين الأداء الذي يؤديه الأبطال الممثلون. بمعنى أن المسرحية تنهض على بطولتين، إحداهما تمثيلية، والأخرى غنائية.
يبدو أن البطولة الغنائية ذهبت في المسرحيات التي لحنها الشيخ زكريا إلى المطرب حامد مرسي، والمطربة رتيبة رشدي. لكن مطربين آخرين اشتركوا غنائياً في مسرحيات زكريا، ومنهم عقيلة راتب، وبديعة مصابني، وعلية فوزي، وحورية حسن، وإبراهيم حمودة، وصباح.
لم يكن هناك من سبيل لحفظ الألحان المسرحية إلا بالتسجيل، وقد كان متعذراً في فترة العشرينيات والثلاثينيات، أو بالتدوين، وكان الحالة الفنية في عمومها تهمله. فضاع معظم هذا الإنتاج الموسيقي، إلا قليلاً من المسرحيات التي أعيد تقديمها في عصر التسجيل الإذاعي، ومن أمثلتها مسرحية "ياسمينة"، التي قدمتها فرقة نجيب الريحاني، عام 1928، ولحّن الشيخ زكريا أغانيها العشر. أعادت الإذاعة أداءها وتسجيلها مع مجموعة من المطربين تضم كلاً من محمد شوقي، وعقيلة راتب، والمأمون أبو شوشة. بهذا، أنقذت الإذاعة عدة ألحان، منها: نشيد "لف يميناً لف خطوة سريعاً"، ومحاورة "على مالك ولا جمالك"، وطقطوقة "جيت لك وأنا متهيأة"، وموال "دع الخلق للخالق".
تُجمع المصادر على أن مسرحية "عزيزة ويونس" التي قدمتها الفرقة المصرية القومية عام 1945 كانت آخر إسهام مسرحي للشيخ زكريا، ويتضمن تسجيلها 13 عملاً غنائياً. لكن ذلك لا يعني أن رحلة الشيخ مع الغناء المسرحي استمرت متواصلة 21 عاماً بين 1924 و1945. وقد كان النشاط المتواصل والمكثف للشيخ زكريا في هذا الميدان خلال عقد العشرينيات فقط، ثم توقف بصورة شبه كاملة خلال عقد الثلاثينيات كله.
ومع دخول عام 1940 اشترك في تلحين أغاني أوبريت يوم القيامة مع سيد مصطفى ومحمد عبد الوهاب حلمي، ببطولة غنائية لإبراهيم حمودة وحورية حسن، وكادت هذه الألحان أن تضيع كغيرها، لولا أن الإذاعة أعادت أداء المسرحية وتسجيلها في يناير/ كانون الثاني عام 1961، قبيل رحيل الشيخ بأسابيع قليلة.. وكل ذلك يعني أن إنتاج زكريا أحمد من الألحان المسرحية كان بين عامي 1924 و1929.
لم يكن التوقف عن هذا اللون اختياراً شخصياً، ولكن التراجع كان حالة عامة، فمع ظهور السينما ثم الإذاعة بدأت نهاية التوهج المسرحي الذي شهدته القاهرة مطلع القرن العشرين، وبلغ ذروته مع سلامة حجازي ثم سيد درويش، وسنوات ما بعد ثورة 1919.
وقد يكون من اليسير أن يعرف الباحث اليوم عدد الألحان المسرحية التي صاغها الشيخ زكريا، وأسماء مؤلفي نصوصها، والفرق التي قدمتها، وتاريخ عرضها على المسارح. لكن الطريق ليس سهلاً أمام من يبحث عن مسرد دقيق أو شبه دقيق للألحان المحفوظة بالتسجيل أو التدوين من بين كل هذا الإنتاج، فما زالت معظم هذه الألحان مخزنة في دهاليز الإذاعة المصرية، لا يكاد يخرج منها شيء للجمهور.
تبقى الدلالة الأهم لهذه الغزارة المسرحية التي أنتجها زكريا أحمد خلال عشرينيات القرن الماضي، متمثلةً في كون الرجل أحد أهم المجددين والمطورين للغناء العربي في القرن العشرين، فاللحن المسرحي بطبيعته يتسم بمسحة تعبيرية ودرامية، وقد استطاع زكريا أحمد أن يقدم أسلوبه التعبيري من دون أي خصم من الرصيد الطربي، أي أنه لم يخضع يوماً إلى الابتزاز الحداثي الذي يضع التطريب في مواجهة مع التعبير، لخوض صراع ينتهي حتماً بهزيمة طرف وانتصار آخر. وبهذا النهج، استحق زكريا أحمد أن يكون أحد صناع الغناء في القرن الماضي.