أفلام يصنعها الطارئ وتجارب جديدة فقط

28 يناير 2025
انتصارات السينما العربية صنعها الطارئ فقط (الدوحة للأفلام)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في الربع الأول من القرن الـ21، لم تتشكل تيارات سينمائية جديدة في العالم العربي، بل ظهرت تجارب فردية غير مستقرة تأثرت بالسينما العالمية.
- السينما الوثائقية اللبنانية برزت كتوجه جديد، حيث دمجت بين الصور الشعرية والوثائقية، مما أضفى عليها طابعًا فنيًا مميزًا، كما في أفلام "يا عمري" و"ميّل يا غزيّل".
- رغم وجود تجارب فردية مميزة في المغرب ومصر، مثل أفلام هشام العسري وكريم حنفي، إلا أنها لم تُحدث تغييرًا جذريًا في السينما العربية.

لا سينما عربية جديدة في الربع الأول من القرن الـ21، أو قبله. هناك تجارب جديدة فقط، منفصلة وغير مستقرّة، يقودها أفراد منفصلون فكرياً وجمالياً، تجسد تجربة أو تجربتين وربما أكثر بقليل، تظهر بجهة ما، أو في مرحلة تاريخية معينة. يصدرها فرد أو أفراد في دائرة سينمائية محدودة. لا تصنع تيّاراً، ولا تُولِّد توجّهاً.
لذا، فانتصارات السينما العربية من ناحية التجديد يصنعها الطارئ فقط. من هنا، يمكن إدخالها في فئة الاستثناءات التي تؤثّث تجارب خاصة من منطلق الوعي الذاتي، فيما تتغذّى الأخرى من تجارب السينما العالمية وتيّاراتها، فتصنع تجديدها منها. بمعنى أنّها مجرّد رجع صدى، أو تلاحم واشتباك وتأثّر بسينما "الآخر" ومنطلقات تجديده.
لذا، لا نزال إلى غاية اللحظة أبعد عن التجديد، لأنّ هذا المصطلح يلبس عادة ثوب التيّار، أو كعصارة ناضجة ومستوية، تأتي كإفرازات من المشهد الفكري والسياسي والمجتمعي والثقافي، من خلال رفض واقع الصيغ السينمائية المطروقة، فيضطر السينمائي ليعَكس هذين الاضطراب والقلق إلى صيغة سينمائية، تحاكي هواجسه وهواجس من يشتركون معه في ذلك الاهتمام نفسه. بالتالي، يتّسع ويكبر ويزيد، ليصبح توجّهاً بسمات معينة، كحال "الموجة الجديدة" في فرنسا التي انتشرت عالمياً فيما بعد، لأنّها وجدت من يؤمن بمبادئها؛ وقبلها السينما الواقعية أو الواقعية الجديدة. وقِسْ على ذلك عدداً من التيّارات والمدارس والتوجّهات السينمائية الناتجة من الصدمات الكبرى للإنسان، كصدمة الحرب وأثرها على الإنسان المعاصر.
من هنا، وجب طرح السؤال التالي: هل هناك في العالم العربي من نحا هذا النحو؟ أو من عاش تلك الصدمات الكبرى؟ أو انتابه قلق معرفي؟ الإجابة: نعم. لكنْ لا يوجد من خَلَق توجّهاً أو تيّاراً، رغم أنّ هناك صدمات كثيرة تفرز قلقاً معرفياً، وتحاصر الإنسان العربي من كلّ جهة، لكنّها لم تجعله يذهب إلى التجسيد السينمائي، باعتباره تيّاراً أو منطلقاً تجديديّاً. رغم ذلك، رجع صدى فقط، يتلقّى ويستهلك ويُجسّد قوالب الآخر وهواجسه، بعد أن يُسقطها في بيئته أو محيطه، بغض النظر إن كانت تلك البيئة تتناسب معها أم لا.
لا أريد أن أكون سوداوياً، إذ تجب الإشارة دائماً إلى نقاط الضوء لحفظ التوازن، وتقديم الصورة الحقيقية بالكامل. بعض هذه النقاط المضيئة تستحوذ عليه السينما الوثائقية اللبنانية، التي يُمكن القول إنّها خلقت توجّهاً سينمائياً جديداً، يناسب هويتها وهواجسها وقلقها واندفاعها وماضيها. إنّها سينما استثمرت جيداً في الفرد، واقتربت من الذات إلى درجة الالتحام، واستمعت إلى آهاته وأحلامه وكوابيسه، لتكون سينما العواطف والانفعالات.
استطاعت الأفلام الوثائقية إعلان القطيعة مع الأفلام التقليدية، وإن لم تكن قطيعة نهائية، لكنّها أحدثت تفاوتاً واضحاً، وبرزت، عربياً على الأقل، بوصفها أسلوباً سينمائياً جديداً، خاصة أنّ هذه التجربة أصبحت لديها سمات بارزة، وساعد ظهورها وانتشارها على تغييب السينما الوثائقية الأخرى، أو التخفيف منها، التي تعتمد على الضيوف والسؤال ـ الجواب والاستعانة بخُبراء ومختصّين للوصول إلى نتيجة ما، وأحياناً كثيرة تغرق في الأيديولوجيا. طبعاً إنّها سينما، ولا يمكن إنكار دورها، لكنّها تقليدية إلى حدّ كبير.
استطاعت السينما الوثائقية اللبنانية الجديدة أن تخلّص هذا النوع من الأفلام من رتابته وتقليديته وروحه الإخبارية والتعليمية الخشنة، وأعطته مساحات شاسعة من الصُور الشعرية التي كانت حكراً على السينما الخيالية. إضافة إلى دمج مَشاهد بممثلين، وجعلها جزءاً من التوثيق. هذه العملية ساهمت في تقويض المسافة بين الخيالي والوثائقي، وخلقت بينهما ألفة فنية كبيرة من ناحية الشكل. أما بخصوص الموضوع، فذلك شأنٌ آخر تماماً، لأنّ هناك انتصاراً واضحاً في هذه النقطة، لاستغلال مخرجين للأرشيف الشخصي والعائلي، وتتبع أفراد مُقرّبين بكاميرا شخصية أحياناً، مع دمج الأرشيف (صُور بالأسود والأبيض وبالألوان، فيديوهات منزلية) بمواد جديدة مُصوّرة، لتُركّب كلّها وفق سياق فنّي متدرّج ومتداخل، أحياناً يحترم المنطق السردي، وأحياناً أخرى يكسره، وكلّ منطق فني يأتي عن طريق الحاجة السردية إلى العمل. هناك أمثلة عدّة تحاكي هذا التوجّه، وبقوّة.
لتقوية هذا الطرح، وجب ذكر نماذج من السينما الوثائقية اللبنانية، المنطلقة من الجماليات المذكورة أعلاه، من دون اعتمادٍ على السياق التاريخي والأسبقية، لأنّ مساحة المقالة وطريقة الطرح لا تسمحان بذلك.
بعض تلك الجماليات جسّدها "يا عمري" (2016) لهادي زكّاك، الذي تتبّع فيه جدّته هنريات، التي تجاوزت مئة عام، راصداً تحوّل الذاكرة والهجرة من لبنان إلى البرازيل، وحكايات الحبّ والأولاد، والأوقات المُعلّقة. في العام نفسه، أُنتج "ميّل يا غزيّل" لإليان الراهب، التي تتبّعت فيه بمرافقة طويلة ومتقطعة مزارعاً يعيش في منطقة قريبة من الحدود مع سورية. ولأنّ علاقة المزارع بالأرض تتجاوز الفهم العادي، قرّر التشبّث بالأرض، وبدأ خدمتها لجعلها أفضل وأكثر خضرة وخيراً. كما أنشأ مزرعةً ومطعماً، ليصبحا جزءاً منها، إذ يراها بعين مختلفة، مليئة بالحبّ والحميمية والحسرة. بذلك، يُقدّم قراءة مختلفة عن علاقة الفرد بالتراب وبالرقعة الجغرافية التي ينتمي إليها.
في سياق الذات البشرية وتشظّيها، أنجز سيريل عريس فيلماً لطيفاً وقوياً، يتقاطع كثيراً مع "يا عمري"، لكنّه يختلف عنه في المعالجة والتتبع الشخصي. "المرجوحة" (2018) يروي مسار المُسنّ أنطوان الذي ينتظر في عيد ميلاده التسعين، رفقة زوجته فيفيان التي تُقاربه سنّاً، زيارة ابنتهما المسافرة إلى الأرجنتين. لكنْ، يأتي خبر وفاتها، فتعيش فيفيان آلام فقدان ابنتها وحدها محاولةً إخفاء الخبر عن زوجها.
قبض سيريل على لحظات مهمّة وفارقة وحميمية في حياة هذه الأسرة، جاعلاً فيلمه وثيقةً بصرية وسينمائية مهمّة، تعكس حميمية أسرة، ومسار وطن.
هناك نماذج حديثة عدّة تُجسّد هذا المنطلق الفني الوثائقي الجديد في المشهد اللبناني، منها "الثالث" (2023) لكريم قاسم المُستكمِل به ثلاثية سينمائية، بعد "فقط للرياح" (2020) و"أخطبوط" (2021).

سينما ودراما
التحديثات الحية

كلّها أفلام هجينة ومتداخلة، تمزج بين التجسيد والتسجيل، لبلوغ الجراح العديدة للبنان، التي تفرز القهر والكبت والظلم والخوف، والاضطرابات النفسية المتعدّدة.
إلى "رصيف بيروت" (2024) لفرح الهاشم، التي صوّرت فيه لوحات محزنة انطلاقاً من آهاتها وأوجاعها ودموعها، ومما حدث ويحدث في غزّة من إبادة جماعية، وحرب دمّرت جزءاً من لبنان، وقتلت صديقها المُصوّر الصحافي عصام العبد الله في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هذه نقاط ضوء مهمّة في دغلٍ مظلم، تسلّلت السينما الوثائقية اللبنانية فيها بخيوط نورها. كما أنّ هناك نقاطاً فردية أخرى جسّدها مخرجون في دول عربية، عكس بعضها المغربي هشام العسري في أفلامٍ له، كـ"هُم الكلاب" (2013)، و"البحر من ورائكم" (2014)، و"ضربة في الراس" (2017)، و"جاهلية" (2018). في مصر، هناك "باب الوداع" (2014) لكريم حنفي، و"آخر أيام المدينة" (2016) لتامر السعيد. إضافة إلى تجارب عربية مختلفة، لكنها في المجمل تعكس مجهوداً فردياً، ولا تخلق توجّهاً أو تيَاراً تجديدياً.

المساهمون