أفلام وثائقية عربية: نظرة مُعلّقة في لحظة الإنسان

09 فبراير 2025
من فيلم "اصطياد الأشباح" للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تميزت الأفلام الوثائقية اللبنانية في القرن الـ21 بجذب الانتباه من خلال تفكيك النص البصري، مع التركيز على الأسرة كنواة درامية، واستخدام الأرشيف والخيال لتحرير الذات من الماضي.

- تتنوع الأفلام الوثائقية العربية في موضوعاتها، مثل السينما اللبنانية البديلة والواقعية المصرية الجديدة، التي تعكس الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، مع التركيز على الفرد في السرد.

- برزت أفلام وثائقية من سوريا وفلسطين والجزائر توثق التغيرات السياسية والاجتماعية، مثل "بلح تعلق فوق قلعة حلب"، مما يستدعي نقاشًا نقديًا حول الإنتاج والتمويل وتأثيرها السينمائي.

يُجمِع نقّاد عربٌ عديدون على أنّ الأفلام الوثائقية اللبنانية، المُنجزة في الربع الأول من القرن الـ21 على الأقلّ، أهمّ سينمائياً في الإنتاج الوثائقي العربي. هذا يعني أنّ فيها ما يُلفت الانتباه، ويُحرِّض على المُشاهدة والمتابعة، وعلى تفكيك النصّ البصري الذي يصنعه مخرجون ومخرجات، يتّخذون من أحد أفراد الأسرة (أمّ، أبّ، عمّ، جدّة) نواة درامية لسرد حكاية، ولكشف تفاصيل أعمّ وأكثر التصاقاً ببيئة ومحيط وتاريخ.

أفلامٌ عدّة تستمدّ حكاياتها من ذاتٍ أو فردٍ، كي تعيد صوغ معالم أناسٍ ومدينةٍ وأزمنةٍ، بلغةٍ تجمع التوثيق، بمعناه التقليديّ المبسّط (أرشيف مُكوَّن من صُور فوتوغرافية، وتسجيلات سمعية/أشرطة كاسيت، وأفلام فيديو عائلية، ومن رسائل ومستندات وشهادات)، بلعبة خيال تنفتح على حاصلٍ في فترة أو أكثر، تُشغِل بال المخرج/المخرجة، أو تكتفي بـ"داخل"، أي بين جدران منزل/عائلة، لسرد شيءٍ من ذاكرة.

لعبة الخيال تلك تُكمِل ما في الأرشيف من مسائل يُراد الاشتغال عليها (للشخصيات الأساسية حضورٌ أساسي بالتأكيد، بكلامٍ تقوله، أو بحركة ونظرة وبوح/اعتراف)، وتلجأ أحياناً إلى التحريك لإكمال المرويّ. هذا تمرينٌ على ابتكار صُور توثّق وتقول، فتكشف مُخبّأ، وتُحرّر ذاتاً من ثقل المتوارث، أو تُفهِم الذات/الفرد (المخرج/المخرجة) بعض الغامض والمسكوت عنه: "النادي اللبناني للصواريخ" (2013) لجوانا حاجي توما وخليل جريج و"عجلات الحرب" (2015) لرامي قديح نموذجان مُثيران لمتعة مشاهدة، ولتأمّل في ذاكرة وحربٍ وراهن، والتحريك فيهما مُكمِّلٌ للمروي. نموذجان لهما حضورٌ عربيّ أيضاً، كما في "موج" (2013) للمصري أحمد نور و"اصطياد أشباح" (2017) للفلسطيني رائد أنضوني (فنّ التحريك في أفلامٍ وثائقية عربية يستحقّ قراءات نقدية مستقلّة، لما فيه من ابتكار سينمائي، وحِرفية مهنية، وبهاء بصري).

هذا مُكرّر، وإنْ بصيغ مختلفة. الحكاية الفردية جزءٌ من محاولات سينمائية عربية، في أفلامٍ روائية أساساً، تُشكِّل (الحكاية) جوهر مشروع غير متوافق عليه سابقاً، مباشرة أو علناً، بين سينمائيين وسينمائيات عربٍ، في فترات تاريخية عدّة، بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين على الأقلّ. فالسينما اللبنانية البديلة مثلاً، الناشئة عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، والمستمرّة في أعوامٍ عدّة منها أيضاً، تعثر في الفرد على خزين ثريّ بالحكايات والانفعالات والتأمّلات، ما يصنع سينما/أفلاماً تبغي قراءة اللحظة الراهنة من خلاله، أو معه. الواقعية المصرية الجديدة، المنبثقة من حالة تردٍّ سينمائي واجتماعي وثقافي واقتصادي، تطغى على الإنتاج المُسمّى لاحقاً "أفلام المقاولات"، تنغل في جسد الفرد وروحه كي ترسم لوحةً سينمائية، متفاوتة الجودة والأهمية والجمال، لكنّها تتوافق كلّها مع رغبة في التجديد، تعكس (اللوحة) واقعاً يُراد تغييبه من وعي وعيش وإنْ بالقوّة.

هذا حاصلٌ في سينمات وثائقية عربية خارج لبنان ومصر. الأعوام الفائتة شاهدةٌ على أفلامٍ وثائقية من فلسطين والجزائر والمغرب مثلاً، تستند إلى فردٍ أو أكثر في عائلة المخرج/المخرجة، لالتقاط تفاصيل ذاتية وعامة، أو الاكتفاء بالتقاط بعض التفاصيل الذاتية البحتة (رغم صعوبة التقيّد الصارم بالذاتيّ البحت في أفلامٍ كهذه). "الربيع العربي"، أو "الثورات" المُغتَالَة، مرحلة خصبة بما يصنع أفلاماً وثائقية أولاً، ترتكز على ثنائيةٍ أساسية: الفرد والبلد، لحظة الثورة ـ الانتفاضة ـ الحراك المدني، أو الحرب المعلنة ضد أناس يثورون ـ ينتفضون ـ يتحرّكون سلمياً ومدنياً.

في سورية، تنتعش سينما وثائقية تنهل من الحراك المدني السلمي العفوي (18 مارس/آذار 2011)، التي يُحوّلها بشّار الأسد إلى حربٍ ضد شعبٍ وبلدٍ واجتماعٍ واقتصادٍ وعمارة، تفاصيل كثيرة تُفيد في توثيق الحاصل أو بعضه، وفي تحصين سرديات يتأسّس بعضها أيضاً على الذاتيّ/الشخصي، مع انفتاح على مسائل مختلفة من عيشٍ في خرابٍ يومي. وإذْ تبدو غالبية تلك الوثائقيات (هناك أفلام روائية قليلة) مهمومة بالحاصل أكثر من اشتغالها على لغةٍ وبصريات، فإنّ اشتغالاً كهذا يحضر في فيلمين على الأقلّ: "بلح تعلق فوق قلعة حلب" (2013) و"ماء الفضة" (2014). المشترك بينهما أنّ من يُصوِّر في حلب وحمص لن يكون هو نفسه المخرج. فالسوري مهنّد النجّار يُصوّر أحوال أناسٍ في حلب في ثمانية أشهر، ثم يُرسِل المُصوَّر إلى اللبناني محمد سويد لإنجاز فيلمٍ (بلح تعلق في قلب حلب) يعكس مراراتٍ وأهوالاً، ويلتقط يوميات أفرادٍ في لحظات هلع وقسوة وعنفٍ. والناشطة الكردية وئام سيماف بدرخان تُرسِل أشرطةً لها، تُصوّرها في حمص (ماء الفضة) أشهراً عدّة (تأتي إليها لعمل مدنيّ إنقاذيّ) إلى السوري أسامة محمد، في منفاه الباريسي، الذي يضيف لقطات مبثوثة على "يوتيوب".

إنجاز فيلمٍ لا يُصوّره مخرجه، أو يشرف مباشرة على تصويره، يحتاج إلى نظرة تتجاوز التصوير والإشراف، وتتكامل، بشكلٍ أو بآخر، مع عين المُصوِّر/المُصوِّرة، وإحساسهما لحظة التصوير. إضافة أسامة محمد على المُرسَل إليه من بدرخان اختبارٌ في كيفية مقاربة مادة مُصوَّرة لا علاقة له بها (طبعاً علاقته الوحيدة بها أنّها معنيّة بحربٍ أسدية في بلده)، وكيفية تطويعها بصرياً بما يتلاءم وهواجسه السينمائية والسياسية والأخلاقية، وانفعاله إزاء الحاصل. بينما يُركِّب محمد سويد المُرسَل إليه من دون إضافات، وهذا بدوره اختبارٌ سينمائيّ، يريد قولاً في حربٍ، فيستفيد من ثقة النجّار به، ومن لقطاته.

تجربة كهذه تُناقَش، لأنّها غير معرَّضة سابقاً لنقاش نقدي يتوافق واختباراتها، كفايةً. أساساً، المُنتَج السوري، المعنيّ بذاك الحراك المُحوَّل عمداً إلى حربٍ أسديّة، يحتاج إلى نقاشٍ يتجاوز الصنيع نفسه كسينما روائية ووثائقية، ومدى استجابته إلى الشرط الفني والتقني والجمالي والدرامي، إلى آليات الإنتاج والتمويل، وسبب الزخم الكبير في تحقيق الأفلام، في الأعوام السبعة الأولى على الأقلّ، قبل انحسار واضح في الاهتمام السينمائي بالـ"حدث" السوري لاحقاً (أعوامٌ لاحقة على البدايات يختفي فيها كلّ إنجاز سينمائي).

هذه نماذج تعكس محاولات فردية في صُنع سينما عربية مختلفة عن سابقٍ لها، تجهد في ابتكار المُفيد سينمائياً وفكرياً وثقافياً. محاولات تقول إنّ الفرديّ أقوى، والشخصي أكثر طغياناً، وإنْ يفشل الفرديّ والشخصيّ في خلق سينما/سينمات عربية تصنع من تجديدها تياراً أو موجة.

المساهمون