أغاني الحرب: تعدد المنشدون والموت واحد (2-2)

أغاني الحرب: تعدد المنشدون والموت واحد (2-2)

24 سبتمبر 2021
انتشرت بعض أغاني الثورة خارج سورية وهتفت بها شعوب أخرى (فرانس برس)
+ الخط -

لم تكن الموسيقى أقسى من البنادق، لكنها حقاً فعلت ما لم يستطع أن يفعله وزيرٌ للدفاع! كيف لأغنية واحدة أن تسيّر مئات آلاف المتظاهرين إلى قبورهم؟ وكيف للموسيقى أن تكون محور انتفاض يجمع ويفرق الهاتفين؟

في بداية الحراك السلمي في سورية، عُرف عن التظاهرات، الكبيرة خاصةً، تبنّيها لمنشدين اختُلقوا من قِبل الأهالي الثائرين. اعتمد هؤلاء المنشدين لتوحيد الهتاف وتنظيمه، ثم طوّرت الهتافات لتصبح أناشيد ملحّنة من قبلهم، أو مغنّاة على ألحان أغنيات قديمة عالقة في الذاكرة السورية. حملت هذه الأغنيات معاني وطنية حاكت الوحدة والكرامة، ونبذت العنف والتطرف. اختيرت بعض هذه الألحان لإشعال الحماسة الثورية، وأحياناً لإيصال رسائل لأشخاص محددين.

على سبيل المثال، رسّخ الفنان دريد لحّام وفريقه فكرة الثورة في ذاكرة السوريين، عبر منتوج ضخم من المسرحيات الناقدة للنظام. وعام 1972، عرضت أكثر أغنيتين راسختين له في الذاكرة السورية: "فطوم" و"يامو". غنى دريد لحام الأغنيتين في أحد أشهر مسلسلاته، ليعاد إحياؤهما في بداية الحراك السلمي من قبل المتظاهرين، بإصدارات حملت كلمات مناهضة للقمع تتغنى بها عدة اعتصامات في سورية.

"موفق النعال – أبو عماد" كان أحد الذين أعادوا قولبة هذه الأغنيات، فحول "يامو" لأنشودة يواسي فيها أم الشهيد، مصرحاً بلومه فيها دريد لحّام الذي انتهى موالياً للنظام، بعدما تغنى بالثورة والحرية في مسرحياته القديمة مع الكاتب محمد الماغوط. وهكذا، أنشدها المتظاهرون في دوما في الغوطة بعد مرور أربعة عقود على إصدارها الأول.

ومع أهم هؤلاء المنشدين الذين صدح صوتهم في حماة، جاء أبو مالك الحموي وإبراهيم القاشوش. غنى القاشوش إحدى أشهر أغاني الثورة الراسخة: "يلا ارحل". تحولت هذه الأغنية إلى أيقونة لم تقف عند الحدود السورية، بل أعيد استخدامها أيضاً في الحراك اللبناني عام 2019، والذي نادى برحيل رؤوس الدولة. لكن ما لم يكن متوقعاً هو إعادة صياغة هذه الأغنية لإنتاج نسخة موالية للنظام السوري من قبل أنصاره، لتذاع في أحد المراكز الانتخابية في وسط العاصمة دمشق في خضم الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي جرت في الشهر الخامس من العام الحالي. كان المشهد الأخير مربكاً لجميع المارة بما يحمله من انتهاك وعجز أمام ما يحدث.

يبرّر البعض الأثر العميق الذي تركه القاشوش عبر هذه الأغنية بنهايته المأساوية، أي بعد قيام قوات الأمن السورية بذبحه واقتلاع حنجرته ثم رميه في نهر العاصي. لكن البعض لا يزال يؤمن بالنظرية المعاكسة التي تنص على أن القاشوش حيٌ يرزق لا يدنسه الموت. تتعدد الروايات، ليبقى القاشوش إلى اليوم مبهم المصير.

تعدد المنشدون والموت واحد. ففي حمص، لم يفارق عبد الباسط الساروت ذاكرة السوريين رغم الجدل الأخير حوله. الساروت، الحارس السابق لنادي الكرامة ومنتخب سورية للشباب، لم يحصد شهرته العظمى من الكرة، بل سار الساروت في طريقٍ لا عودة منه. وقد يكون أهم ما قيل عنه إنه الرجل الذي لم يعد حساباته قط. قاد الساروت تظاهرات حمص مغنيّاً وهاتفاً من دون أن يكل، علا صوته في "جنة جنة"، وانخرط بعدها في العمل العسكري لينتهي مستنزفاً جميع حلوله ومواجهاً طواحين الهواء وحيداً.

ورغم الضجة التي أثارها الساروت في مواقفه، فمن الصعب حقاً إنكار بطولته مهما اختلفت الآراء حوله. انتهى الساروت تاركاً وراءه ناتجاً غنائياً ثورياً فاقداً لصوابه السياسي في أواخره، مع كومة من الأعمال المودّعة المهداة له أحياناً والموبخة أحياناً أخرى، وعلى رأس هذه الأعمال وداعية صديقه المنشد له قاسم جاموس، الذي تغنى بالثورة في أوائلها كمثيله الساروت، ولكن في درعا. وعلى خطاه، أهدى الفنان عبد الحكيم قطيفان أغنية "لو ترجع"، باكياً فيها قتل الساروت.

على المنحى الآخر، قام وصفي المعصراني، المغني والملحن السوري، بإنتاج أعمال تؤرخ أغاني الثوار من مبدأ حفظها، فتواصل من بعد مع الساروت قبل مقتله، وقاما بأعمال مشتركة، أهمها "جنة جنة"، و"حرام عليك". ولم يقف وصفي المعصراني عند تسجيل أغاني الساروت فقط، إذ تواصل مع منشدين آخرين، منهم طارق الأسود. سجل المعصراني أغنية طارق الشهيرة "أصابع نصر". طارق الذي كان منشداً ثورياً في حمص أيضاً، قاد تظاهرتها لكنه لم ير النور، وذلك لأنه رحل في خضم العنف الحاصل عام 2012.

وأنتجت أغان عدة للثورة نشرت من الخارج، أهمها "كاتيوشا". وهي في الأصل أغنية شعبية ذائعة الصيت في روسيا، لُحّنت عام 1938 وأذيعت في الحرب العالمية الثانية. تحكي الأغنية عن فتاة تنتظر حبيبها المجند الذي غادر البلاد ليخوض الحرب مع جيش بلاده. فاخر فيها الروس وقتها بشجاعة وصمود جنودهم حتى سميت لاحقاً قاذفات صواريخ "كاتيوشا" على اسم هذه الأغنية. وفي ما بعد، أعاد الفنان محمد آل رشي والثنائي الفرنسي "كاترين فانسان" صياغة هذه الأغنية في قالب جديد ساخر، ليتم بها نسف المعنى الذي حملته الأغنية الروسية وقلب المعادلة لتضيء على الدم السوري الذي يراق هنا من الجيش الروسي نفسه. أهديت هذه الأغنية لأرواح ضحايا حلب الذين لقوا مصرعهم جراء القصف الروسي.

وفي سياق ذم الجيش، خرج الفنان سميح شقير في أغنية كانت من أوائل الأناشيد الغاضبة رداً على الاعتداء على أطفال درعا. أشعل سميح بأغنيته "يا حيف" قلوب السوريين بعد أيام من اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتبعه العديد من الفنانين لينشد كل منهم حزنه وقهره في مقطوعاته الخاصة. فجاءت تسجيلات أبو غابي لتكون ألماً خالصاً من العيار الثقيل، حاكى فيها قهر مخيم اليرموك والغربة فيه وعنه. وعلى خطاه، تقاسمت الحزن كل من عفراء باطوس ومجد الحموي في عدة تسجيلات مبكية، أبرزها كانت أغنية "حامي الحمى" التي نددت بظلم النظام السوري.

حرب السنوات العشر بدأت بالأمنيات، حملت فيها البلاد داخل رحمها حلماً أُجهض كلما بدا اكتماله قريباً... على لوح أثري عثر عليه في الساحل السوري، اكتشف باحثون ما يظنون أنه أول نموذج لكتابة موسيقية في العالم. حكى اللوح عن فتاة شابة لا تُنجب، وتظن أن عدم إنجابها يعود إلى إثم ما ارتكبته، من دون أن يأتي اللوح على ذكره. سورية لا تعرف ما الإثم الذي ارتكبته، لكنها تعرف اليوم أنها دائماً وأبداً قد تبقى مجهَضة.

المساهمون